كذلك قد يؤدي أحياناً عدم الفهم لآيات القرآن الكريم إلى اتهام الأنبياء بأشياء لا يمكن أن يتصورها مسلم صحيح العقيدة، يخشى الله ويعظم قدر الأنبياء.
فمثلاً: قصة إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:75 - 78].
فالآن بعض المسلمين يفهمون أن إبراهيم مر في حياته في فترة تردد وحيرة وضياع، وما كان يعرف أين الله، ولذلك مرة يقول على الكوكب هو الله، ومرة يقول على الشمس الله، وتخبط حتى اهتدى في الأخير إلى التوحيد.
والله عز وجل يقول: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [آل عمران: 67] ما كان ولا في يوم من الأيام: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران:67] طول عمر إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، ولا يمكن أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو رجلاً لا يعرف الله، ولا يعرف أين ربه.
فإذاً كيف نفهم هذه الآيات؟ لما نرجع إلى التفسير، نجد أن علماءنا قالوا: إبراهيم عليه السلام كان يناقش قومه ويجادلهم، فلو قال لهم: هذا الكوكب ليس هو الله من أول مرة، ما استطاع أن يفحمهم؛ لأن آل إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام، وكذلك كانوا يعبدون النجوم والكواكب والشمس والقمر، فإبراهيم أراد أن يفحمهم بأسلوب عجيب يجب أن يتعلم منه كل داعية، حيث كان مع قومه في مناسبة، فخرج كوكب، قال: هذا ربي، ليس اعتقاداً من إبراهيم، إنما تنزلاً معهم في المجادلة والنقاش، وهذا أسلوب معروف في النقاش، وهذا مثلما نقول نحن الآن على فرض أنه كذا، فكذا وكذا وكذا، وإن كان هذا الفرض خاطئ ولا يمكن أن يحصل.
فهذه كانت طريقة إبراهيم، قال: هذا ربي، فلما غاب -وهو يعرف إبراهيم أن الكوكب سيغيب- قال: لا أحب الآفلين، يعني: لا يمكن أني أحب إله يغيب، والقمر نفس الشيء، والشمس وهي الأكبر، قال: هذه أكبر، الآن هذه ربي، فلما غابت، قال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] هذه أسلوب في العرض، يتنزل معهم في النقاش حتى يوصلهم إلى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً} [الأنعام:79].
وأيضاً يونس عليه السلام نبي كريم من أنبياء الله، وقد جاء في آية: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] كيف يفهم الآن الناس: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]؟ هم يفهمون أن يونس ذهب مغاضباً، وفكر أن الله لا يقدر أن يأتي به، فكان جزاؤه أن التقمه الحوت، فجلس ينادي في الظلمات، فهم يفسرون قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أنه فكر أننا لن نقدر على الإتيان به.
وفعلاً -أيها الإخوة- هذه من الأمثلة على أنه لا بد من الرجوع إلى كتب التفسير ومعرفة أقوال العلماء، ترجع إلى كتب التفسير فتجد أن (نقدر) هنا ليس من القدرة وهي الاستطاعة، بل الفعل: نقدر ماضيه: قدَر وليس قدِر، قدِر يعني: استطاع، وإنما قدَر يعني: ضيق، ولذلك يقول الله في القرآن: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] الذي ضيقنا عليه في الرزق ينفق على حسب استطاعته وما عنده، وكذلك: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16] فقوله تعالى: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16] أي: ضيقه.
فماذا يكون معنى الآية؟ معنى الآية أن يونس ذا النون لما صار في بطن الحوت- ابتلاء من الله ليعظم الدرجات له في الجنة، ظن يعني: أيقن، فهي قد تأتي بمعنى أيقن، وقد تأتي بمعنى شك، وهي هنا بمعنى: أيقن، وهذا مثل قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] يعني: متأكد أني ملاقٍ حسابيه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] يعني: أيقن أننا لن نضيق عليه في بطن الحوت، وأننا سننجيه ولن نضيق عليه ولن ننساه، وسنجيب دعاه، فلذلك نادى، وإلا لو أنه ظن أنه ليس هناك أمل، لماذا قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]؟ لم يكن هناك فائدة من الدعاء، ولكن لأن هذا النبي الكريم يعلم بأن الله لن يقدِر عليه، لن يضيق عليه في بطن الحوت، فلذلك نادى في الظلمات: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].