ذم الاستكثار من الطلب وترك العمل

قال أبو نعيم: دخلتُ على زفر وقد غرغرت نفسه في صدره -أي: عند الموت- فرفع رأسه إليّ، فقال: يا أبا نعيم: "وددت أن الذي كنا فيه كان تسبيحاً" زفر من الفقهاء ومن تلاميذ أبي حنيفة رحمه الله، يقول: وددنا أن المسائل التي تكلمنا فيها كانت تسبيحاً.

وقال عائض الله: الذي يتبع الأحاديث ليحدثَ بها -أي: دون أن يعمل- لا يجد ريح الجنة.

ولما بكَّر أصحاب الحديث مرةً على الأوزاعي التفت إليهم، فقال: "كم من حريصٍ جامعٍ جاشعٍ ليس بمنتفعٍ ولا نافعٍ".

وقال الفضيل لشخص جاءه: لو طلبت مني الدنانير كان أيسر إليّ من أن تطلب مني الأحاديث، فقلت له: لو حدثتني بأحاديث -فوائد- ليست عندي كان أحب إليَّ من عددها من الدنانير.

قال: إنك مفتون، أما والله لو عملت بما قد سمعتَ لكان لك في ذلك شغلاً عما لم تسمع، ثم قال: سمعتُ سليمان بن مهران - الأعمش - قال: إذا كان بين يديك طعامٌ تأكله، فتأخذ اللقمة وترمي بها خلف ظهرك -شخص أمامه طعام يأخذ لقمة ويرمي بها خلف ظهره وهكذا- فمتى يشبع؟!! وهكذا الذي يجمع العلم دون أن يعمل، ويجمع ويجمع ويجمع ولا ينتفع بشيء؟ وقال سفيان بن عيينة من ورعه رحمه الله: "لو قيل لي يوم القيامة: لم طلبت الحديث؟ ما دريت ما أقول".

ولذلك كانوا إذا جاءهم الشخص العامي، أو الشخص الذي لا علاقة له بعلم الأسانيد يسأل عن شيءٍ في دقائق الأمور ليست من شأنه ردوه، وقد سأل رجلٌ ابن عيينة عن إسناد حديث، فقال له ابن عيينة: ما تصنع بإسناده؟ أما أنت فقد بلغتك حكمته، ولزمتك موعظته، اعمل به الآن، جئت تسألني عن الأسانيد والعلة، اعمل به أولاً.

وقال خلاد بن يزيد، وكان من أجل الناس وأعبدهم: أتيت سفيان بن عيينة، جاء يطلب أحاديث، فقال له سفيان: إنما يأتي بك الجهل لا ابتغاء العلم، لو اقتصر جيرانك على علمك كفاهم، ثم كوّم كومةً من حصى، ثم شقها بأصبعية، ثم قال: هذا العلم أخذت نصفه، ثم جئت تبتغي النصف الباقي، فلو قيل: أرأيت ما أخذته هل استعملته؟ فإذا صدقت قلت: لا، فيقال لك: ما حاجاتك إلى ما تزيد به نفسك وِقْراً على وقر، استعمل ما أخذت أولاً.

وسُئل سفيان بن عيينة من العالم؟ قال: "الذي يعطي كل حديثٍ حقه".

وما حق الحديث؟ العمل به، ولذلك كانوا يربون طلابهم على العمل بالعلم، ولذلك قال بعضهم لطلابه لما جاءوا يطلب منه سماع حديثٍ قال: حتى تعملوا بما تعلمون تأتوني فأحدثكم.

وقال شبابة: دخلت على شعبة في يومه الذي مات فيه وهو يبكي، فقلت له: ما هذا الجزع يا أبا بسطام؟ أبشر فإن لك في الإسلام موضعاً، فقال دعني، فلوددت أني وقادُ حمام، وأني لم أعرف الحديث، أي: من ثقل مسئولية العلم عليه، يقول: أنا لا أدري أن العلم الذي أخذته وجمعته قد يكون حجة عليّ، قد لا أكون عملت به، فألقى الله وعليّ حجة هذا العلم الذي تعلمته، ولذلك كانوا يحاربون تكثير الأسانيد، وطلب التكثيف، وعدم العمل بالنافع، وتعلم الشيء الجديد الذي ينفع، ولذلك وأي رجل في المنام علي بن المديني فقال له: جمعت حديثاً من مائة طريق، فانتظر قليلاً: أخشى أن يكون هذا داخل تحت قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1].

فأما الذي يعمل بالحديث فالاستكثار منه جيد، ولذلك وضع الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المسند فوق أربعين ألف حديث، لكنه عمل بها كلها، قال: ما تركت حديثاً إلا عملت به، ولما قرأ (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً) قال: احتجمت وأعطيت الحجام ديناراً، والدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، لكن لأجل تطبيق الحديث بذلها الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

ولذلك قال العلماء: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكانوا يحاربون فيما يحاربون مسألة التوغل في بعض العلوم التي تشغل عن علم الكتاب والسنة، مثل: الاستكثار من النحو، حتى قال بعضهم: تلقى الرجل وهؤلاء يلحن حرفاً وعمله لحنٌ كله.

وقال بعضهم: رأيت الخليل بن أحمد في النوم، فقلت في منامي: لا يُرى أحد أعقل من الخليل، فقلت: ما صنع الله بك؟ قال: أرأيت ما كنا فيه، فإنه لم يكن شيءٌ أفضل من سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

وقال بعضهم: رأيت الخليل في المنام فقلت له: نجوت؟ قال: بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قلت: كيف وجدت علمك؟ -علم العروض والأدب والشعر؟ - قال: وجدته هباءً منثوراً:

سيبلى لسانٌ كان يعرب لفظة فيا ليته في وقفة العرض يسلم

وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقىً وما ضر ذا تقوى لسانٌ معجم

على أن هذا الكلام لا يهون من أهمية تعلم اللغة العربية، لأن الإنسان لابد أن يتعلم اللغة العربية؛ ليصحح قراءة القرآن والحديث، لكن التوغل في دقائقها وفروعها التي تجعل الإنسان يتباهى بما عنده من النحو، ويؤدي به الأمر إلى التقعر والتكلف، والاختيال على الآخرين وانتقادهم، هذا هو المذموم.

ولذلك لما قيل لبعضهم: يا أبا نصر! أنت رجل قرأت كذا وكذا فلمَ لا تتعلم العربية حتى تصحح لسانك؟ قال: ومن يعلمني يا أبا الفضل؟ قال: أنا يا أبا نصر، قال: فافعل، قال: قل: ضرب زيدٌ عمراً، فقال له: يا أخي! ولمَ ضربه؟ قال يا أبا نصر: ما ضربه، إنما هذا أصلٌ ووضع للتمثيل فقط، قال: هذا أوله كذب لا حاجة لي فيه.

فهذا الكلام ينبغي أن يفهم الفهم الصحيح، وهو: أن تعلم اللغة العربية لابد منه، خصوصاً في هذا الزمان الذي عمَّ فيه الجهل باللغة العربية حتى صار الواحد يفتح القرآن ولا يعرف معناه من ضعف اللغة العربية، فلابد من تعلم اللغة العربية بقدر ما نفهم به القرآن والسنة، لكن الخوض في دقائقها وتفاصيلها الذي يصرف عن علم القرآن والسنة وعن الفقه وعن العمل هذا هو المذموم، ولابد أن يكون الإنسان عاملاً يتخذ من علمه زاداً لمعاده ينفعه يوم القيامة.

قال الحسن رحمه الله: [يتوسد المؤمن ما قدم من عمله في قبره -أي: رأسك في قبرك موضوع على وسادة؟ ما هي الوسادة؟ العلم- إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً، فاغتنموا المبادرة رحمكم الله في المهلة] هذه المهلة الدنيا.

وقال بعضهم:

فما لك يوم الحشر شيءٌ سوى الذي تزودته قبل الممات إلى الحشر

إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمنِ البذرِ

إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد بما كان أرصدا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015