العنوان مكون من جزئين: استدراك ما فات.
والاستدراك لغة: استفعال من درك، والدرْك والدرَك اللحاق والبلوغ، وفي اللغة استدرك الرأي والأمر إذا تلافى ما فرط فيه من خطأ ونقص، والاستدراك عند العلماء، وهو الذي يرد كثيراً في كلام الفقهاء: إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خلل أو قصور أو فوات، ويقولون: استدراك نقص الصلاة بسجود السهو، واستدراك الصلاة إذا بطلت بإعادتها، واستدراك الصلاة المنسية بقضائها، والاستدراك بإبطال خطأ القول وإثبات صوابه، إذا كنت تتحدث وأخطأت تستدرك كلامك وتأتي بالصواب.
ويقول العلماء أحياناً: التدارك، وهي لفظة أخرى يستخدمها الفقهاء، والتدارك في الأفعال: فعل العبادة المتروكة، أو فعل جزئها في محله المقرر شرعاً ما لم يفت، كما في قول صاحب كشاف القناع رحمه الله من علماء الحنابلة: لو دفن الميت قبل الغسل، وقد أمكن غسله لزم نبشه، وأن يخرج ويغسل تداركاً لواجب غسله، وكقول الرملي رحمه الله: إذا سلم الإمام من صلاة الجنازة تدارك المسبوق باقي التكبيرات بأذكارها، وقوله: لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذكرها وقد شرع في القراءة وفاتت فلا يتداركها.
وقد يقطع الغلط في القول فيحتاج الإنسان إلى تداركه، بأن يبطله ويثبت الصواب، ولذلك طرق ومنها: قولهم (بل) فيقول كلاماً فيتذكر أو يعرف أنه خطأ، فيغير ويقول (بل) ويأتي بالصواب، هذا هو الاستدراك.
أما الفوات فمن الفوت، والفوات يقال في اللغة: فاته الشيء إذا ذهب عنه كما في اللسان، والفوات منه ما يكون في أمور الدين، ومنه ما يكون في أمور الدنيا، أما فوات الدنيا فهو شيء قليل سهل ويسير يمكن تعويضه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله الله به عليه كتبه الله شاكراً صابراً.
ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه، لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً، وقد تولى الله علاج الألم النفسي الذي يترتب على الفوات، تولى الله علاج ما حصل من ذلك في نفوس الصحابة في غزوة أحد، فقال الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:153].
فقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران:153] أي: فجزاكم غماً على غم، وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: الغم الأول بسبب الهزيمة، والغم الثاني حين قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة، فإذاً: كان ألماً عظيماً بالهزيمة والقتل والجراح.
لما قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، كان غم غطى على الغم الأول فنسوا الغم الأول، ثم تبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم حي، فسروا وكان الغم الأول قد نسي في غمرات الغم الثاني، وهذه حكمة إلهية بديعة قدرها الله تعالى في أحداث هذه الغزوة.
{لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران:153] أي: على ما فاتكم من الغنيمة، والظفر بعدوكم، ولا ما أصابكم من الجراح والقتل.
إذاً فوات الدين في نفوس المؤمنين هو الأعظم، ويحصل الهم لفوات الدنيا لأنهم بشر، فأي إنسان إذا فاته شيء من الدنيا ربما يتألم؛ لكن ينبغي أن يعلم أن فوات الدين أعظم بكثير من فوات الدنيا.
ومما يساعد على التغلب على ألم فوات شيء من مال أو نجاح أو أي شيء فاتك من الدنيا: الإيمان بالقضاء والقدر، ولذلك قال الله تعالى في سورة الحديد: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] فأخبر أنه كتب كل المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكل مصيبة قبل أن تحدث فهي مكتوبة عند الله، أي: فعلنا ذلك وكتبناه وقدرناه من قبل أن نخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] أي: فأعلمناكم -كما يقول ابن كثير في تفسيره رحمه الله- بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم، لأنه لو قدر شيء لكان.
إذا فاتتك عبادة وعلم فهو الذي يحزن عليه حقاً، وهو المصيبة كما جاء عن نوفل بن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي: فكأنما فقد أهله وماله.
أما الدنيا فتعوض؛ حدثني أحد التجار في الحج قال: أنا نزلت إلى تحت الصفر وطلعت إلى مئات الملايين، ثم نزلت إلى تحت الصفر ثم طلعت إلى مئات الملايين أربع مرات في حياتي، فالدنيا تذهب وتجيء، لكن الدين إذا ذهب:
لكل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض