وأما التعاون على الإثم والعدوان فإنه حرام ولا يجوز وقد نهانا الله عنه، فلا نعين على محذور، وقد فهم الصحابة ذلك حتى في الأمور الدقيقة، فعن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه، قال: (انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أحرم، فأنبأنا بعدوٍ فتوجهنا نحوهم، فبصر أصحابي بحمار وحشٍ، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته، فحملت عليه الفرس فطعنته فأثبته، فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني، فأكلنا منه، ثم لحقنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إن أصحابك أرسلوا يقرءون عليك السلام ورحمة الله وبركاته، وإنهم قد خشوا أن يقتطعهم العدو دونك فانظرهم ففعل، فقلت: يا رسول الله! إنا اصطدنا حمار وحشٍ، وإن عندنا فاضلةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا، وهم محرمون)، وفي رواية: (أن هذا الرجل استعان أصحابه، فقالوا: لا نعينك عليه بشيء، فإنَّا محرمون)، وفي رواية أيضاً عنه رضي الله تعالى عنه قال: (كنا في منزلٍ في طريق مكة، والقوم محرمون وأنا غير محرم، فأبصروا حماراً وحشياً وأنا مشغولٌ أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا في أنفسهم لو أني أبصرته، والتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيءٍ، وفي القصة أنه خبَّأ عضداً، ولما أدرك النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن الحكم؟ قال: معكم منه شيءٌ، فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها حتى نفذها وهو محرم) كل الروايات في صحيح الإمام البخاري رحمه الله.
فلم يعينوه على المحظور، وأما الأكل مما صاده الحلال غير المحرم فهو جائزٌ للمحرم.
وقال عليه الصلاة والسلام لمَّا أقيم حدٌ على إنسان مسلم وأقامه الصحابة قالوا: فمنَّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله -لهذا المحدود- فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)، وفي رواية: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) رواهما البخاري.
فإذا كان المحدود قد جُلِد والحد كفَّارة له؛ فلأي شيء يُدعى عليه، ولأي شيء يَشْعُر أنَّ إخوانه أعداؤه، فيكونون عوناً للشيطان عليه، بل الواجب تسهيل المشوار عليه بعد التوبة، واستقباله بعد تطهيره بالحد استقبالاً حسناً.
وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبلَ بدر، فلما كان بـ حرة الوبرة -وهو مكان بعد المدينة - أدركه رجلٌ يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه -أي: رأوا هذا المشرك الشجاع المحارب جاء يلتحق بهم- فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة: ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم رجع فأدركه بالبيداء؛ فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانطلق وادخل في الجيش نستعين بك الآن) الحديث في صحيح مسلم.
فإذاً قد يكون الحرام في الاستعانة في الشخص المستعان به، وقد يكون الحرام في موضوع الاستعانة؛ ولذلك لا بد أن يكون التعاون على البر والتقوى بالشروط الشرعية، وألا نتعاون على الإثم والعدوان.
وفقنا الله عز وجل لفعل الخيرات، وترك المنكرات، والتعاون على البر والتقوى، إنه سميعٌ مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.