ومن القضايا كذلك التي تحدث في أوساط الإخوة: قد يستزل الشيطان مسلماً من المسلمين فيوقعه في فاحشة من الفواحش، أو في منكر من المنكرات، أو في خطأ شرعي، قد تضعف نفس هذا الأخ المسلم في وقتٍ من الأوقات فيقع في فاحشة أو منكر أو يرتكب معصية، فيكون وقع هذه المعصية على نفوس إخوانه كبيراً جداً، لأنه من المفترض أنه يبتعد عن هذه الأشياء، لكن الضعف البشري صفة ملازمة للبشر؛ لأن النقص في البشر وفي بني الإنسان مسألة موجودة، فإذا وقع شخص من إخوانك المسلمين في هذا الخطأ أو في هذه المعصية ماذا يحدث؟ في الحقيقة -أيها الإخوة- أن ردود الفعل تتفاوت، فمن ردود الفعل الخاطئة والخطيرة جداً -بل إن عواقبها وخيمة للغاية- أن هؤلاء الناس المحيطين بهذا الرجل إذا عرفوا أنه قد وقع بهذه الخطيئة، أو في هذه المعصية، يتبرءون منه حالاً، وينفضون عنه، لا يجالسونه، ولا يكلمونه ويقاطعونه، ولا يسلمون عليه، ولا يسألون عنه، لأنه في نظرهم قد صار فاسقاً، وهذا التصرف تصرف خطير جداً، بل إنه من أعز أمنيات الشيطان، وأعز أمنياته أن يتصرف المسلمون مع أخيهم المسلم الذي وقع في المعصية هذا التصرف، وود الشيطان أن يصل إلى هذه النتيجة، لماذا؟ لأن ذلك المسلم المخطئ الذي ارتكب هذا المنكر عندما يرى انفضاض إخوانه من حوله ماذا سيحدث؟ سيبتعد عنهم، ومن الذي يجتذبه؟ يجتذبه أعوان الشر وإخوان الشياطين، ويذهب إلى غير ما رجعة، بينما لو كانت الأمور عولجت بأسلوب آخر لكان قد تلافينا الوضع ورجعت المياه إلى مجاريها بغير هذه النتائج الخطيرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في قصة الصحابي الذي أخطأ وعصى الله وشرب الخمر، وقد أتي به ليجلد، فبينما هم يجلدونه أخذوا يسبونه: لعنة الله عليه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) من المستفيد؟ فأنت الآن عندما تشتمه علناً وتسبه وتلعنه ثم تقاطعه من المستفيد؟ الشيطان هو المستفيد وحزب الشيطان هم المستفيدون الوحيدون من هذه المعاملة، لذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [إذا رأيتم أخاكم اقترف ذنباً فلا تكونوا أعواناً للشيطان عليه، كأن تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية] لأنك يمكن أن تقع بالخطأ الذي وقع فيه، وأنت لست معصوماً، وربما تزل قدمك في يوم من الأيام وتضعف نفسك لا سمح الله وترتكب هذا الخطأ الذي وقع هو فيه وللآن أنت جالس تنتقص منه وتخاصم وتعاديه وتقطع علاقاتك معه من أجل هذا الخطأ، أنت يبتليك الله بما وقع فيه في يوم من الأيام.
فإذاً في هذه الحالة ماذا يكون التصرف الصحيح؟ من قواعد الشريعة -أيها الإخوة- كما قال علماؤنا -وهذا كلام مهم جداً- أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره، ويعفى عنه مالا يعفى عن غيره -كلام ابن القيم رحمه الله كلام جميل- فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
انظر الاستدلال الجميل جداً، فالماء إذا بلغ قلتين ووقع فيه شيءٌ من النجاسة، هل تظهر فيه النجاسة؟ لا.
لأنه ماء كثير، وهذا رجل من إخوانك في الله له محاسن كثيرة، وله فضائل كثيرة، وله جهود مشكورة، فعندما يقع في خطأ، هذا الخطأ السيئ الذي وقع فيه بجانب الحسنات الكثيرة التي عنده: ماذا تكون؟ نقطة في شيءٍ كثير من الماء، فلذلك يقول ابن القيم رحمه الله: ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!) قالها في أي مناسبة؟ في قصة حاطب بن أبي بلتعة؛ وحاطب بن أبي بلتعة صحابي جليل جداً شهد معركة بدر، وقاتل مع المسلمين، وأهل بدر غفر لهم الله عز وجل، وحاطب بن أبي بلتعة فعل خطأً عظيماً، فلقد أرسل رسالة إلى كفار قريش يخبرهم فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عازمٌ على المسير إليهم في فتح مكة، أليس هذا الخطأ خيانة كبيرة للمسلمين؟ إرسال خبر إلى الكفار لكي يستعدوا ويتأهبوا وتضيع الفرصة على المسلمين خيانة عظيمة، وخطأ كبير جداً، لكن حاطب رضي الله عنه له حسنات هائلة، فهو صحابي جليل، وقد ناصر الرسول صلى الله عليه وسلم وناصر الإسلام، وخرج في معركة بدر وقاتل وفي غيرها من المعارك، ونصر الله ورسوله في مواقف كثيرة جداً، ويطلب العلم مع المسلمين ويدعو معهم إلى الله عز وجل، ومرة وقع في هذا الخطأ بسبب ضعفٍ نفسي، فكيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم الأمور؟ عمر رضي الله عنه كان غضوباً، قال: أقتل الرجل، فهذا قد نافق وهو جاسوس، أأضرب عنقه؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر مهدئاً: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!) هذا الكلام لـ عمر.
أما ما قال لـ حاطب: فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى به بهدوء وقال له (ما حملك على هذا) أولاً: معرفة الأسباب، فهذا من أوائل الأمور، كيف نواجه الأمر؟ أولاً: إذا وقع شخص من إخواننا المسلمين في خطأ أو معصية -أيها الإخوة! هذا منهج مهم جداً نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لاتباعه- أولاً: لا نواجه هذا المخطئ أو هذا العاصي الذي وقع في المعصية بالسب والشتم واللعن ونصفه بالفسق والفجور، وثانياً: لا نغير علاقتنا معه ونقطعها، كما ذكرنا قبل قليل.
ثالثاً: لا بد أن نعرف عذره، وكيف وقع في هذا الخطأ، وكيف ارتكبه.
أحياناً قد يكون الرجل عنده عذر قوي، حاطب رضي الله عنه وأرضاه كان عنده بعض العذر والرسول صلى الله عليه وسلم استفهم من حاطب، أجلس حاطباً وقال (ما حملك على هذا) ما حملك على ما صنعت؟ لأنك أحياناً إذا تبين لك عذر الشخص يمكن أن يتلاشى كل ما في نفسك عليه، فقد تعذره في هذا الشيء الذي وقع فيه، فقد يكون وقع فيه بغير إرادته، وقد يكون الشيء الذي أنت تصورته عن وضعه غير صحيح.
فلا بد إذاً -أيها الإخوة- من معرفة العذر، ثم بعد ذلك تقدر الأمور وينظر إلى عذر هذا الرجل: ما هي قوته؟ هل يعاتب؟ هل يوبخ؟ والتوبيخ من وسائل التعزير، إذا كانت مقاطعته مفيدة -مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع كعب بن مالك - تُفعل.
فـ كعب بن مالك متى قاطعه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لما كان مجتمع المدينة كله مسلماً تقريباً، قاطع الرسول صلى الله عليه وسلم كعباً، وأفادت القطيعة، لكن إذا قاطعت الآن أحد المسلمين الذين يخطئون، ماذا تكون النتيجة؟ آلاف من أهل الشر ينتظرونه ليتلقفوه.
فإذاً مقاطعته في هذه الحالة تكون من عدم الحكمة، فلذلك لا بد من الإحسان إليه، ونعظه في الله موعظة، ونذكره بعقوبة هذا الجرم الذي وقع فيه عند الله، وإذا تاب واستغفر وحسنت حاله فقد يرجع التائب إلى درجة أعلى من الدرجة التي كان فيها قبل الذنب، كما ذكره ابن القيم رحمه الله، يقول: من التائبين من يعود إلى درجة أعلى مما كان عليه قبل أن يقع في الذنب، ومنهم إلى نفس الدرجة، ومنهم من يرجع إلى أقل منها، بحسب حاله وتوبته وإنابته.
لا بد من إحسان الظن بالإخوة، لا بد أن نحسن الظن بإخواننا ونلتمس العذر لهم، وأن نحمل الأمر على أحسن أوجهه، حتى نحصل على أفضل النتائج، ونسد أي ثغرة من الثغرات التي يفتحها الشيطان، يقول أحد السلف: إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى.
وقال أحدهم لرجل من السلف وقد انقلب صاحبه عن الاستقامة -أي: رجل من السلف له صاحب، وهذا الصاحب انقلب عن الاستقامة، فقيل لهذا الرجل-: ألا تقطعه وتهجره؟ -يعني: هذا الرجل الآن أصبح عاصياً لماذا لا تقطعه وتهجره؟ -فقال: إنه الآن أحوج ما يكون إليَّ.
بمعنى: أنه عندما وقع في عثرته فأنا آخذ بيده، عندما يكون الشخص مستقيماً قد لا يحتاج لأحد، لكن عندما يقع في الخطيئة ويقع في المعصية تكون حاجته لإخوانه في الله أكثر من حاجته قبل المعصية بكثير.
إذاً لا بد من تقدير هذه النقطة، وإذا ما قدرت ضاع هذا المسكين، حاجة المخطئ لإخوانه بعد الخطيئة أعظم من حاجته إليهم قبل أن يخطئ، فإنه فعلاً يحتاج الآن إلى انتشال، ويحتاج إلى إصلاح، وتغيير حاله وإعادته مرة أخرى.
كذلك بعض الناس إذا كانت المناسبة -مثلاً- مناسبة لعب أو حفلة، فإنهم يحضرون كلهم في المجلس، أما إذا كانت مناسبة علم شرعي، فإنك ترى بعضهم يتخلفون، فهؤلاء ليسوا بإخوة في الله حقيقة، ولو كانوا كذلك لحرصوا على ما يرضي الله، ولاجتمعوا عليه وتفرقوا.