الآن نتيجة التقارب الذي يحدث بين المسلمين المتآخين في الله عز وجل، فإنهم يكثرون من الجلوس مع بعضهم، وتتعدد مجالسهم، ويجلسون مع بعضعهم كثيراً، وهذا طبيعي؛ لأن الخير لا بد أن ينجذب إليه الأخيار، فسيجلسون مع بعضهم، وهذا الجلوس ليس محموداً في بعض الحالات، بل إنه ينتج عنه مشاكل، ونحن الآن نريد أن نناقش بعض هذه المشاكل.
يقول ابن القيم رحمه الله: اجتماع الإخوان على قسمين: اجتماعٌ على مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ وهذا أقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت، والثاني: اجتماعٌ على التعاون على أسباب النجاة؛ وهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها.
والآن ليس كل الناس الطيبين إذا اجتمعوا مع بعضهم يخرجون بنتائج طيبة، لا.
أحياناً الناس يجتمعون مع بعضهم، لماذا يجتمعون مع بعضهم؟ أحياناً يكون الاجتماع بسبب أن فلاناً فيه توافق وتجانس بين شخصيتي وشخصيته، في مطابقة بين شخصيتي وشخصيته، تآلف هناك أي: أرتاح له ويرتاح لي، المسألة مسألة ارتياح، فنتيجة لذلك نجلس مع بعضنا كثيراً، هذا الجلوس إذا تعدى حداً معيناً فإنه يكون مذموماً، لماذا؟ لأن هذا الجلوس هو عبارة عن استئناس بالجالس، وتفكه ومفاكهة بالحديث معه، وإمضاء للوقت، وهذا الإنسان معاشرته طيبة وحديثه جميل، ونحن نتبادل مع بعض أحاسيس وأخبار، يعني: ارتياح، لا تتعدى المسألة الارتياح، لذلك تجد هذا المجلس ما فيه تواصٍ بالحق والصبر، وليس فيه علم شرعي يطرح، ولا مسائل مفيدة تناقش، وإنما تكون قضايا دنيوية أو أحاسيس وأشياء تقال في هذه المجالس لمجرد الارتياح فقط، هذه الأشياء يقول عنها ابن القيم رحمه الله: هذا أقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
أما النوع الثاني: فهو الاجتماع على التعاون وعلى أسباب النجاح، التعاون لطلب العلم، التعاون للمشاورة والمناقشة في أوضاع المسلمين، وماذا يصلح لهم، التعاون والجلوس لحل مشكلة معينة واقع فيها إنسان مسلم أو بعض المسلمين، مجالس الوعظ والتذكير وزيادة الإيمان، هذه المجالس التي تزيد الإنسان صلة بالرحمن.
أما إذا كان المجلس بسبب الارتياح لا بسبب الذكر ولا طلب العلم، بل لمجرد الارتياح والتوافق النفسي، فإن هذا المجلس سيكون فيه سلبيات، فمن هذه السلبيات بالإضافة إلى ضياع الوقت وفساد القلب تزين بعضهم لبعض.
فتجد الناس إذا جلسوا مع بعض كل واحد يداري عيوبه؛ وقد تصبح فيها مجاملات، وكل إنسان يريد أن يظهر أحسن ما عنده من الأخلاق، فلا يظهر لأخيه على حقيقته، فلذلك إذا غادر المجلس تغيرت طباعه، فيسبب تزين بعضهم لبعض، وهذه من آفات المجالس، أن الناس يتزينون لبعضهم، ولا يبدون أمام بعضهم البعض بكل صراحة ووضوح، وإنما يداري العيوب وتنكشف في أماكن أخرى، أحياناً: يجلس الإنسان مع أخيه -مثلاً- في مجلس فيظهر له في غاية البشاشة واللطف، وبغاية الحسن في الأسلوب والأدب، فإذا انقلب إلى بيته وجدت علاقته بزوجته علاقة سيئة جداً، لا فيها لطف، ولا حسن معاملة، ولا أدب، ولا شيء، لماذا؟ بسبب التزين الذي يحدث في المجالس، يتزين بعضهم لبعض.
هذه من المشاكل.
وتزداد الخلطة بهؤلاء الناس عن مقدارها الذي تحتاج إليه، فتتحول إلى شهوة تلهي عن المقصود، وتعطل الإنسان عن القيام بالواجبات، وهذه حاصلة، تجد بعض الناس يجتمعون مع بعض، ويجلسون مع بعض، وقد يكون فيهم خير وليسوا سيئين، ولا فيهم منكرات ولا فسوق؛ لكن تطول بهم مجالس الاستئناس والارتياح فتلهيهم عن طلب العلم، وعن صلاة النافلة، وعن قراءة القرآن، وعن محاسبة النفس، وتلهيهم عن الدعوة إلى الله.
أيها الإخوة: لا بد أن نفكر جدياً أن هناك من يحتاج إلى أوقاتنا من الضائعين من المسلمين الذين يحتاجوننا بشدة أكثر مما يحتاجه فلان وفلان، عندما نجلس مع بعض لمجرد الاستئناس والارتياح، هذه الاستئناسات والارتياحات تفوِّت عليك أشياء عظيمة جداً وواجبات كبيرة، بدل ما تجلس يا أخي تتكلم في كلام ما نقول كلام محرم بل كلام مباح، قم من هذا المجلس واذهب إلى فلان هذا الحائر الضائع، وانصحه وكلمه لعل الله أن يهديه على يديك، بدلاً من أن تجلس أنت وتضيع الوقت في الكلام مع هؤلاء الناس، وأحياناً لأن طابع المجلس طابع إسلامي، فإن هذا الشيء يُغبش على بعض الأنظار فلا ترى هذا الخطأ، فيقول في عين نفسه: أنا أجلس مع إخواني في الله، الحمد لله أنا جالس مع أناسٍ طيبين، ولذلك لا يفكر في تغيير واقعه، وقد يكون فيه خطأ كبير، أقل ما فيه اشتغال بالمفضول عن الفاضل، وهذا مدخل من مداخل الشيطان.
الانطلاق في المجتمع أفضل من أن تجلس جلسات الارتياح والمؤانسة، انطلق -يا أخي- فهناك في المجتمع منكرات كثيرة تحتاج إلى تغيير بشتى أنواع التغيير، هناك أناس يحتاجونك بشدة، هناك أقارب لك يعيشون وهم بحاجة إلى شخص ينصحهم، وأحياناً عندما تأتي وتكلم الناس تجد هناك إقبالاً وتعطشاً عند كثير من الناس، لكن هذه الاستئناسات تشغلك عن هذه القضية.
كان ابن الجوزي رحمه الله يحتال على زائريه، أناس يأتون لتضييع الأوقات، يقولون: هذا ابن الجوزي حسن الكلام والمفاكهة، فيأتونه ويزورونه، وابن الجوزي رحمه الله من الناس الذين عندهم عصامية في القراءة وطلب العلم، فإذا كل شخص جاء يريد أن يكلمه، وكل شخص يريد أن يزوره؛ فمتى يقرأ لنفسه؟ ومتى يبحث؟ ومتى يحاسب نفسه؟ ومتى يربي نفسه؟ ومتى يذكر الله؟ ومتى يصلي الصلوات النافلة؟ فكان ابن الجوزي رحمه الله يحتال لهؤلاء، فيقول: فكنت أترك لزيارتهم الأشغال التي تحتاج إلى وقت ولا تحتاج إلى تفكير، يعني: كنت أترك الأشياء التي تحتاج إلى وقت ولا تحتاج إلى تفكير هذه أؤخرها إلى أن يجيئني شخص.
مثل ماذا؟ مثل بري الأقلام، وتقطيع الأوراق، فهذه كان يخليها عندما يأتي الناس، قال: لأني أقع في مشكلة إذا رددت الناس قالوا: لماذا هذا يردنا؟ هذا متكبر وهذا وهذا وإذا أدخلتهم وجلسوا ضاع الوقت وراحت القضية في كلام لا فائدة فيه، فصار يرجئ قضية بري الأقلام وتقطيع الأوراق إلى أن يأتي الناس، فإذا جاءوا جلس يقطع ويبري ويتكلم معهم حتى ينصرفوا، أي: لا بد من الحكمة في تصريف الأمور، وليس يأتي إنسان فتقول: اليوم لن أجلس معك؛ لأن هذه المجالس كلها كلام لا فائدة فيه.
فلا بد من الحكمة والتروي واتخاذ الأسلوب المناسب.