وبعد هذا النوع من الاستطراد في هذه المشكلة التي قد تقع أحياناً، فإننا نعاود الكلام في النقطة الأخيرة في هذا الموضوع عن الحل الأساسي في علاج الهوى: وهو التجرد.
التجرد لله عز وجل من العلائق الدنيوية، التجرد من حظوظ النفس ومن شهواتها، فنحن عندما ذكرنا أمثلة في المرة الماضية نعيد سردها مع عرض جانب التجرد فيها، عندما ينتقد الإنسان، وتوجه إليه النصيحة، يجب عليك يا أخي المسلم وعليَّ أنا أيضاً أن أقف موقف المتجرد عندما توجه لي النصيحة، وأفكر هل هذا الأمر الذي نصحت فيه فعلاً أنا واقعٌ فيه، أم لا؟ لا داعي لأن أكابر، وأن أرد، وأن أقول للآخر: من أنت حتى تنصحني؟ هذا من اتباع الهوى الذي يحملك على أن تربأ وتنأى بنفسك عن كل انتقاد وعن كل نصيحة، لأن حظ النفس وهوى النفس ألا تنتقد، فتجرد عندما توجه إليك النصيحة، عندما تقرر بخطأ ما، تناقش هل أنت أخطأت في هذا الأمر أم لم تخطئ؟ تجرد لله عز وجل وأنت تقرر بهذا الخطأ، تجرد لله عز وجل إن كان الأمر فيه اعتراف بالخطأ، ولا داعي للمكابرة، ومحاولة إيجاد التبريرات والأعذار السقيمة التي تجعلك تشعر أنك بمنأى عن الخطأ وأنك لم تقع فيه، وهذه بلية قد ابتلي فيها كثير من الناس، فإنهم إذا وقعوا في أخطاء، وجاءوا يناقشون ويقررون بأخطائهم، يرفضون الاعتراف.
إنه من جانب الهوى، تجرد وتفكر، تجرد لله عز وجل، قل: أنا أخطأت، قولك: إنني مخطئ يزيدك في أعين الناس جلالةً وقدراً، خلاف ما يصور لك الشيطان، وما يصور لك اتباع الهوى من أنه ينقصك ويدني منزلتك، كلا، إن كثيراً من السلف من الأسباب التي وصلوا إليها أنهم كانوا معترفين بأخطائهم، عمر بن الخطاب كان يقف على المنبر، ويعلن أمام الناس أنه مخطئ، ولذلك شهد التاريخ لنا بعظمة عمر؛ لأنه كان من جوانب عظمته أنه كان يقر بخطئه وهو خليفة المسلمين، الرجل الذي يجب أن يظهر أمام الناس بأحسن صورة، حتى لا يقول الناس أخطأ الخليفة، من هذا الرجل المولى علينا، كيف نمشي وراءه ونقتدي به، مع ذلك كان إذا قرر على خطئه أقر، وترى اليوم أناساً مغمورين في أبواب الدعوة إلى الله ينكرون أدنى خطأ ينسب إليهم؛ بسبب الهوى الحامل لهم على التعصب الذي يعمي أبصارهم عن رؤية أخطائهم وعن الاعتراف فيها.
إن هذه المسألة من الخطورة بمكان -أيها الإخوة- لأنها تقضي على كل محاولة للتصحيح، لأن التصحيح ينشأ من الاعتراف بالخطأ، أنت إذا أقررت بالخطأ بدأت تسلك الطريق الصحيح، أما إذا أنكرت وكابرت، وقلت: أنا غير مخطئ، فلن تصحح مطلقاً، هذه من البلايا التي ابتلي بها كثيرٌ من المسلمين اليوم.
تجرد إلى الله من هذا الهوى، وراقب الله، وكف بصرك، وكذلك وأنت تحاول ونفسك تحاول أن تتملص من بعض الأحكام الشرعية تجرد إلى الله، وحاسب نفسك، وقل: هل أنا في تملصي هذا على حق، أم أنني مخطئ، ويجب أن أتمسك بهذه الأحكام؟ وأنت تتعامل مع إخوانك تجرد إلى الله من الأهواء، تجرد إلى الله من هوى الجور بينهم، فإن كثيراً من الناس يجورون في الحكم بين إخوانهم.
تجرد إلى الله من هوى الميل إلى بعضهم على حساب بعض، ورفع أناس لا يستحقون الرفعة، وخفض آخرين هم أهل لها بسبب الهوى الذي يحملك على تقديم فلان من الناس، لا لأنه أتقى لله وأعلم، وإنما لأنه أظرف، أو أجمل صورة، أو أخف دماً مثلاً، هذه المعايير الجاهلية التي يسلكها كثيرٌ من الناس في تقدير منازل العالم كلها من باب الهوى.
تجرد إلى الله وأنت تقيم الأشخاص، تجرد إلى الله وأنت تعدد مساوئهم ومحاسنهم، حبك الشيء يعمي ويصم، كثيرٌ من الناس إذا طلب منه مثلاً شهادةً في فلان من الناس، فتراه يخفضه ويرفعه من مقياس الهوى، لا من المقياس الشرعي الصحيح، وهذه من الطامات التي تسبب محق البركة في العلم.
وكذلك تجرد من الهوى وأنت مع إخوانك عندما تعاملهم، فأنت قد تغلظ على إنسان في القول، أو في الفعل، لأنه لا يوافق مزاجك، ولا طريقة تفكيرك، بينما أنت تحسن إلى فلان، وقد يكون أقل تقوىً، وأقل علماً من ذلك الرجل لمجرد أنه دخل في مزاجك، أو استهويت شخصيته.
وتجرد إلى الله عز وجل، والهوى يغالبك في عدم القيام لصلاة الفجر، ويجعلك تشد إلى الفراش لتريح جسدك أكثر وتنام أكثر.
وتتجرد المرأة لله تعالى، تتجرد لله تعالى وتقاوم هواها وهي تحكم بين أولادها.
ويتجرد الإنسان إلى الله عز وجل من هوى الفوضى الذي يحمله على عدم ضبط مواعيده، وعلى عدم الانضباط في طلب العلم والإقبال على مائدة القرآن والسنة.
تجرد إلى الله، بعض الناس يأتيه الهوى، فيقول: أنا أستطيع أن أتعلم لوحدي، أنا أستطيع أن أمشي لوحدي، وهذا في نفسه هوى الفوضوية هو الذي يعمي عينيه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية).
تجرد إلى الله من هوى المشاركة في المجالات التي كلها لهو ولعب.
وتجرد إلى الله عز وجل من هوى الزواج بالجميلة حتى ولو كانت أقلَّ ديناً، أو حتى لو لم تكن ذات دين.
تجرد إلى الله عز وجل وأنت تقرأ الكتب.
تجرد إلى الله عز وجل في قراءة الكتب الصحيحة النافعة، وليس في قراءة الروايات والقصص التي تهواها النفس وتميل إليها.
وتجرد إلى الله عز وجل يا أخي الطالب وأنت تدرس، وقدم دينك وخدمة دعوة نبيك على كل غرض دنيوي، ووازن بين الأمور، لا يطغى جانبٌ على جانب، الموازنة الوسطية هي من صفات هذه الأمة، الوسطية (لا ضرر ولا ضرار) لا تتضرر في خدمة قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا في خدمة طلب العلم، ولا في خدمة الدراسة، وازن بين الأمور، لا يحملك الهوى على الانقطاع عن جانب والانغماس تماماً في الجانب الآخر.
تجرد إلى الله تماماً يا أخي الموظف وأنت في دائرة عملك، وتعايش كثيراً من المنكرات، ويأتيك الهوى، فيقول لك: من المصلحة أن تسكت، فإنك إذا تكلمت قد تطرد من العمل، وقد تضايق.
تجرد إلى الله وأنت تعرض عليك الوظيفة في مكان من الأماكن المحرمة، تجرد إلى الله وهوى نفسك يدفعك إلى أن تقبل بها، لأنها أكثر راتباً، أو أعلى منصباً.
تجرد إلى الله عز وجل في موقفك من الأقوال والأحكام الفقهية، في موقفك من العلماء، بعض الناس يتعصبون لعلماء على آخرين، ولمذاهب على مذاهب، هذا النوع من اتباع الهوى خطير، ويؤدي إلى الضلال، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] فالهوى يجعلك تبخس فلاناً حقه، وفلاناً جميله، وتنكر فضل فلان عليك، لا، تجرد إلى الله من هذا الهوى، أقر بفضل فلان وفلان من أهل الفضل، ولا تتعصب لعالم على آخر، اتبع الحق بدليله، لا تتبع هواك في انتقاء الأحكام.
فإذاً، أيها الإخوة! قضية التجرد ليست سهلة، لكن الذي يجاهد نفسه في سبيل الله، فلا بد أن يهديه الله السبل التي يستطيع بها أن يصل إلى مبتغاه.
أظن أن فيما ذكرنا كفاية، ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من هذا.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لاتباع الحق.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيينا حياة طيبةً، وأدخلنا الجنة مع الأبرار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله أولاً وآخراً، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم رحمة الله وبركاته.