كانت تلك لمحات عن وضع الحلق في عهد السلف، وقد ذكر العلماء آداباً للحلق، فقالوا: ينبغي لمن يأتي الحلقة أن يصلح هيأته ويأخذ أهبته، حتى أنهم قالوا: يتعاهد نفسه ويتجمل للحاضرين، فيغتسل، ويمشط شعره ولحيته، ويصلح عمامته وثوبه، ويتبخر، ويبتدئ بالسواك، ويلبس من الثياب البيض، ويستعمل الطيب، وينظر في المرآة قبل أن يأتي، ويهيئ نفسه للحاضرين وللدرس، ولمجلس الذكر الذي تحفه الملائكة، ويأتي مقتصداً في مشيته، ويبدأ من يلقاهم بالسلام، ويعم بالسلام كافة الحاضرين، لا يخص شخصاً بالسلام، وإذا كان في مسجد ودخله، فإنه يصلي ركعتين قبل جلوسه، ويجلس متربعاً متخشعاً، وقد جاء في الحديث الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه شخصٌ قاعداً القرفصاء فقال: أرعدت من الفرق) يعني: من الهيبة لهيئة النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك يستعمل لطيف الخطاب في الكلام، ويحسن خلقه مع أصحابه وأهل حلقته، لأن النبي قال: (خالق الناس بخلقٍ حسن) وهؤلاء أولى الناس أن يحسن الإنسان خلقه معهم، ولذلك كانوا يحاولون كظم الغيظ، ومنع الغضب، والتلطف في الكلام، وتعيين الأيام للدروس؛ هذا مما ذكروه في آداب الحلق.
وإذا عين لهم يوماً ووعدهم فيه، فلا ينبغي إخلاف موعده إلا بأمرٍ يعذر فيه من مرضٍ ونحوه، وكذلك كانوا يفضلون عقد المجالس في المساجد، لكن لو لم يحصل عقدوها في البيوت، وقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم للنساء مجلساً في بيتٍ، وقال: موعدكن بيت فلانة
لكل أناسٍ نحو سوقٍ مقاصد وسوق ذوي تقوى القلوب مساجدُ
مثابة ذكراهم عشياً وبكرة وللعابدين الله فيها معابدُ
فطوبى لهم يوم الجزاء إذا جزوا ونودوا بأن طبتم وطاب المُواعدُ
ويجعل اتجاهه إلى القبلة ما أمكن، لكن شكل المجلس يأخذ الحلقة المستديرة، ولذلك فإن أصحاب كتب اللغة قد قالوا في تعريف الحلقة: القوم مجتمعون مستديرون، وكذلك إذا مس شيئاً فيه ذكر الله، فإنه يكون على طهارة، وكان بعض المحدثين يستفتح بسورة من القرآن، ويرفع صوته -أي: الشيخ- ليسمع الناس، ولا يرفع أكثر مما يسمع الحاضرين، لأنه قد يشوش على أناس آخرين في المسجد يقرءون القرآن مثلاً، فصوته لأهل الحلقة فقط، ولا بأس أن يجلس على مكانٍ مرتفعٍ إذا كثر الناس، ويفتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا ينسى الشهادة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويترحم على شيخه ويدعو له.
وكذلك كانوا يبدءون أول شيء بالسند في الحديث باسم الشيخ، وإذا مر بذكر الصحابي قال: (رضي الله عنه) ثم يمر بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يروي ما لا تحتمله عقول العوام، وينتقي للحاضرين ما يفيدهم، من معرفة الأحكام الشرعية، والعبادات والمعاملات، وحق الله تعالى ونحو ذلك، ويفسر الألفاظ الغريبة الغامضة إذا مر بها، وما لا يعرفه يسكت عنه، وكذلك فإنه لا يُمل الحاضرين ولا يضجرهم، ولا بأس بأن يختم المجلس بالحكايات الطريفة والنوادر إذا لاحظ شيئاً من الملل، حتى أن بعضهم كان يقول: الحكايات حبوبٌ تصطاد بها القلوب، كما يصاد الطير برمي الحب له.
ولا بأس أن يجعل شيئاً من الأشعارِ في المجلس، وقد كان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يجعل ذلك في مجلسه، وفيها فوائد وبالذات إذا كانت من أشعار العرب؛ لأن معاني الكلمات في القرآن والسنة على لسان العرب، فتعرف الكلمة من معناها في سياق بيت من الشعر قاله العرب الأوائل ونحو ذلك.
ولا ينسى كفارة المجلس إذا قام من المجلس، وهذا من الأشياء التي يفرط فيها الكثيرون.
كان هناك أدبٌ في الدخول من جهة الشيخ، ومن جهة التلاميذ تقدمت آداب ومن ذلك أنه يقدم الأكبر عند الدخول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالكبير، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: تقديم الأكابر في الدخول، فإذا اجتمع مجموعة عند الباب يقدم الأكبر سناً، وقال مرةً واحد منهم للكبير: تقدم، فقال: تقدم أنت فإنك أفقهنا وأعلمنا وأفضلنا، فإذا كان الأفقه والأعلم قدموه.
وإن كانوا متقاربين فمن الذي يدخل أولاً؟ الأكبر بالسن، وكذلك يمشي على البساط حافياً حتى لا يلوث المجلس، وكذلك يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يقيم أحداً من مجلسه ولا يجلس وسط الحلقة، ولا يجلس بين اثنين إلا بإذنهما، وإذا قام من مجلسه ورجع إليه، فهو أحق به، ويعظم المحدث أو العالم أو طالب العلم الذي يعلمه في هذه الحلقة ويكون له من الشاكرين.