أيها الأحبة في الله: ما ذكر العبد هذه المواقف إلا هانت عليه الدنيا، وأحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، وسعى في خلاص نفسه وفكاكها من ذنوب العباد، فما أشقى مَن عَظُمت مَظالِمُه! وما أشقى مَن عَظُمت مآثِمُه! فويلٌ لمن كثرت خصومته بين يدي الله جل جلاله! وويلٌ لمن آثر الدنيا على الإخوان، فظلم هذا، وأكل مال هذا، وانتهك عرض هذا! وويلٌ لمن أطلق لسانه في غِيبة فلان وعلان، فجاء يوم القيامة وحيداً فريداً بين يدي الله الواحد الديان، وتعلق به صاحبه وقال: يا رب شتمني هذا، يا رب اغتابني ونَمَّني هذا.
فالفكاك الفكاك من هذه الحقوق العظيمة، ومن هذه المواقف الجليلة يوم لا حسب ولا نسب ولا جاه إلا الجاه عند الله يوم لا مقرِّب إلا التقوى يوم تنفصم الأمور فلا تبقى إلا العروة الوثقى.
اللهم الطف بنا إذا صرنا إلى ذلك المصير، اللهم الطف بنا إذا صرنا إلى ذلك المصير.
ما أعظم النجاة إذا خرجتَ من قبرك وقد سترتَ عورات المسلمين، وفرجتَ كربات عباد الله المنكوبين! يوم أن تخرج إلى الله بتلك الصحائف المشرقة يوم أن تخرج إلى الله بحسناتك للأيتام والأرامل يوم أن تخرج إلى الله بتلك الحسنات العظيمة والأجور الكريمة! فكم لك من يدٍ عند الله جل جلاله، إذا نادى منادِ الله فقمتَ إلى تلك المشاهد في ظل صدقتك التي تصدقتَ بها! فما أطولها! وما أعرضها! وما أنعمها! وما أبركها! يوم أن تتلقاكَ الملائكة: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
فيا أيها الأحبة في الله: ما أعظم الخصومة بين يدي الله في المظالم، يوم يحشر الإنسان من سبع أرضين، قد اختنق حاله في شبر من الأرض ظَلم أخاه فيه! يوم يتعلق به الخصوم، ويُنْصَف منه المظلوم، ويُعطى منه المحروم! ويقول الله كما في الحديث القدسي: (يا عبدي! ألم أنعم عليك؟ ألم أتركك ألم أسوِّدك؟ ألم أرفعك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ماذا عملت لي؟) ثم يقول جل جلاله: (يا بن آدم! استطعمتُك فلم تطعمني، قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت ربي؟! قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمتَ أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت ربي؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقِه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدتَ ذلك عندي؟ يا بن آدم! مرضتُ فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربي؟! قال: مرض عبدي فلان فلم تعدْه، أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي؟).
الله أكبر من يومٍ عظُمَت حسناتُه! الله أكبر من مشاهد قَرَعَت قلوب المؤمنين فـ {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
الله أكبر من مواقف أقَضَّت مضاجع الصالحين! الله أكبر من مواقف وقوارع حفَّزَت همم عباد الله مِن السلامة من ظلم عباد الله! فمن أراد السلامة فليبتعد عن المظالم.
اتقِ الله في لسانك الذي تطلقه في أعراض إخوانك.
اتقِ الله يوم تلمز فلاناً في نسبه؛ فتقول: فلان فيه كذا، وفلان من بني كذا، وتعيِّره وأنت ضاحك باسمَ الثغر، فوالله لك يومٌ موعود، ولقاء مشهود، يبدو إلى الله جل وعلا ما لفظه لسانك: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
إن عورات المسلمين محرمة، واللهُ يغار عليها، فلا يسمعنَّ اللهُ منك كلمة تؤذي بها مسلماً غائباً أو حاضراً، احفظ لسانك، فكم من لسانٍ كبَّ صاحبَه على وجهه في النار، قال معاذ: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نقول؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال: على مناخِرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟!) حصائد هذه الألسنة: يوم افتخرتَ بقبيلتك، ويوم افتخرتَ ببني عمومتك، فجئت يوم القيامة لم تنفعْك الأرحام، ولا الأحساب، ولا الأنساب، {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3] فلا جاه إلا جاه أهل التقوى، ولا عز إلا عز أهل الدين والهدى.
جعلنا الله وإياكم منهم.
اللهم آمين.
من أحب أن يُسَلِّمه الله من هذه المواقف العظيمة، ومن هذه المشاهد الجليلة فليحفظ لسانه وسِنانه وجوارحه وأركانه عن أذية المؤمنين، إذا سَلِم المسلمون من أذيتك، واجتهدتَ في طاعة الله على قدر وسعك، فأنْعِمْ عند الله وأكْرِمْ بها حياة! ولتخرُجَنَّ من هذه الحياة طيباً مطَيَّباً، فلا تُذْكَر إلا بخير.
عُفَّ لسانك عن أعراض المسلمين، عُفَّ لسانك عن إثارة العداوة والبغضاء بين المؤمنين، فمِن أشد الجرائم وأعظمها أن تُقْطَعَ هذه الأخوة وتُقْطَعَ أواصرُها بكلمة من عبدٍ لا يخاف الله ولا يتقيه، يوم أن يُخْرِج تلك الكلمات التي يوغر بها صدور عباد الله بعضِهم على بعض، فهم يصلُّون في المسجد الواحد أمة واحدة يؤمنون جميعاً ويركعون جميعاً ويسبحون ويمجدون ويستقبلون قبلة واحدة ويدْعون رباً واحداً وما إن يخرجوا من باب المسجد حتى يتلقفهم هذا الشرير بشره؛ لكي يبث إلى هذا كلمةَ عداوة، ولكي يبث إلى هذا ما يوجب البغضاء والشحناء.
فويل له إذا حمل بين يدي الله وزرها، وويل له ثم ويل له إذا طُبِع عليه، فصار هَمَّازاً مهيناً مَشَّاءً بنميم، لا مكانة له عند الله رب العالمين، والله يقول في كتابه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] أي: لا تطع أهل النميمة، ولا تصغ بسمعك لهم، واحفظ جوارحك عنهم، فإن الله يسلمك من هذه المشاهد العظيمة.
احفظ جميع ما وهبك الله من حولٍ وقوة، واستغله في طاعة الله جل جلاله.
فإن سَلِمْتَ من ذنوب الناس، وأصبحتَ خفيف الحمل من ذنوب الناس فأنْعِمْ برحمة الله جل جلاله.