لذلك أحبتي في الله! قسوة القلب ولينه، رقة القلب وغلظه، أمر عظيم، حتى إن الله عز وجل أخبر نبيه، أن صلاح أمور الدعوة إلى الله تقوم على رقة الداعية إلى الله، قال سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ولو كان قلبك قاسياً لانفضت هذه الجموع الرقيقة الرفيقة من حولك يا رسول الله.
لذلك أحبتي في الله! رقة القلوب يحتاجها أحب العباد إلى الله وهم أنبياؤه والهداة والدعاة إلى الله، وطلاب العلم، وعامة الناس وخاصتهم، وإذا لم تلن القلوب لله فلمن تلين القلوب؟ وإذا لم تذل القلوب لله فلمن تذل القلوب؟ وإذا لم ترق القلوب لكلام الله فلمن ترق القلوب؟ فبأي شيء تلين تلك القلوب؟ أحوج ما نحتاجه أن تكون هذه القلوب رقيقة، حتى إذا قيل لها: قال الله، خشعت واطمأنت وخضعت وأذعنت لله عز وجل، نحتاج إلى رقة القلوب حتى إذا وقف المؤمن تلك الوقفة التي تحتاج إلى القلب الرقيق عل الله أن يرفق به كما رفق بعباده، فيجد من الله نفحة من رحماته.
ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث السنن: (أن الراحمين يرحمهم الله) وهل رحمة القلوب إلا بلينها؟!! بل ثبت في الحديث الصحيح عن المصطفى والحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم: (أنه مر عليه الأقرع بن حابس وقد وضع صبيه في حجره يقبله صلوات الله عليه وسلامه من حنان قلبه وفؤاده ولينه، فقال له: إن لي عشرة من الولد، ما قبلت واحداً منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك) أي أيُ شيء أملكه ما دام الله قد نزع الرحمة من قلبك.
فلين القلوب يحتاجه الوالد مع ولده، وتحتاجه الوالدة مع ولدها، أمنية عظيمة وغاية سامية كريمة، لا تصلح الأحوال إلا بها بإذن الله عز وجل، ومتى وجدت الأب ذا حنانٍ ورحمة بابنه وبابنته، وجدت ذلك البيت ترفل فيه السعادة، ومتى وجدته حليماً رحيماً بأهله وزوجه رحمه الله، فجعل بيته تضفي عليه السعادة خيراً كثيراً.
وكذلك إذا وجدت تلك الأم المسلمة المؤمنة الحقة تضفي على أبنائها حنان القلب النابع من رقة الفؤاد وجدت صلاح ذلك البيت وفلاحه، ومن هذا كله نعلم أن رقة القلوب وذلتها لله، نحتاجها في جميع شئوننا وفي جميع أحوالنا، حتى مع أهلينا وبناتنا.
يحتاجها الداعية إلى الله في دعوته، حينما يكون رحيماً بالناس رفيقاً بهم كما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم، يحتاجها طالب العلم، حتى إذا جلس في مجالس العلماء، جلس بقلب يجل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهل توجد حلاوة طلب العلم إلا بعد ذلة القلوب ورقتها؟ ومتى وجدت طالب العلم يجلس في مجالس العلم، بقلب خاشع رقيق ذليل لله عز وجل، وجدت فيه سكينة ووقاراً وبهاء.
ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [كان الرجل إذا طلب العلم ظهر ذلك في وجهه وفي يده وفي لسانه وفي تخشعه] أي: أصبح خاشعاً لله عز وجل.
إذاً: لا بد من رقة القلوب، ولذلك إذا عزبت هذه الخصلة الكريمة وغابت هذه الصفة التي هي صفة رحيمة عن الإنسان وأصبح قلبه بخلاف ذلك تدمرت حياته، وتنغص عيشه، وتكدر خاطره، وكان من العناء والبلاء ما لا يعرفه إلا رب الأرض والسماء، فما الذي أفسد الدعوة على الداعية إلا غلظه على العباد، وما الذي أفسد الزوجة على زوجها والزوج على زوجته إلا القلوب القاسية التي لا تراقب الله في المعاشرة الزوجية.
وكذلك ما أفسد الأبناء وجعل أبناء المسلمين يعيشون ليلهم في حيرة وقلق، حتى ضاع الأبناء وضاعت البنات عن الحنان والرقة والرحمة الأبوية، إلا فوات هذه الخصلة الكريمة، خصلة الكرام وأهل الإسلام: رقة القلوب وإنابتها إلى الله عز وجل.
أحبتي في الله: إذا غابت عظم البلاء واشتد العناء، وشهد الله عز وجل من فوق السماء، أنها سبب في البلاء وأي البلاء، بل إنه توعد من فقد هذه الخصلة بوعيد شديد، وعذاب من الله أكيد، فقال سبحانه وتعالى وهو الحميد المجيد: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] ويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، ويل لقلوب تسمع القرآن ولا تخشع عند سماعه، ويل لعيون ذكرت بكلام الله فلم تسح بالبكاء من خشيته، وويل لأسماء ذكرت بوعد الله ووعيده فلم تصغ لكلامه، ويل في الدنيا وويل في الآخرة.
ولذلك تجد أصحاب القلوب القاسية في عذاب من الله وعناء، ولو كان الواحد منهم على الفراش الوثير وفي العز والنعمة والخير والجاه والغنى، لكنه يحس أنه في قلق نفسي واضطراب شخصي، لا يقر قراره ولا ترتاح نفسه بسبب هذه الخصلة التي لا يحبها الله.
إذا قست القلوب وعد الله عز وجل أهلها بنكد العيش ونغصه وعذابه.
لذلك -أحبتي في الله- صفات القلب الحبيبة إلى الله، من أجلها ذلتها ورقتها وخشوعها لله، ولذلك ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل الله وضرع إلى الله أن يعيذه من قلب لا يخشع لوجهه، فقال: (اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع).