الوصية الرابعة والأخيرة التي أختم بها هذه الكلمة هي: الصبر والتحمل واحتساب الأجر: طالب العلم يعامل الله، والمعاملة مع الله فيها ابتلاء واختبار وامتحان، ولا بد لطالب العلم أن يَجِدَ الشدائد، وأن يَجِدَ المحن، وأن يَجِدَ من يثبطه ومن يخذِّله.
فأول صبرٍ يُوصَى به طالب العلم: الصبر على وساوس الشيطان: فإن الشيطان لن يدع لطالب العلم باب خيرٍ يطرقه إلا وجاءه من كل حدبٍ وصوبٍ حتى لا يَبْلُغَه، لا يمكن أن يترك طالب العلم وأن يُخَلِّي بينه وبين الخير؛ لأن الله عز وجل أخبر أن المؤمن مبتلىً، ودرجة طالب العلم فوق درجة المؤمنٍ العامِّي، فلا بد أن يكون مبتلىً، تعيش مع نفسك في الوساوس، فأول ما يأتي الشيطان للإنسان يخذِّله، يقول له: مَن أنت؟! من أنت حتى تطلب العلم؟! فلستَ بعالم، ولا أبوك بعالم، ولستَ من بيت علم، حتى يخذِّله عدو الله، ويجعلَ في قلبه اليأس من رحمة الله، والقنوط من روح الله.
فما على طالب العلم إلا أن يُحسن الظن بالله، وأن يقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
فمَن فهَّم سليمان وعلَّم داوُد قادرٌ على أن يفهِّمك ويعلِّمك؛ فأحسِن الظن بالله جل جلاله، وكم من طلاب علمٍ كانوا على جاهلية وبُعْدٍ من الله تبارك وتعالى؛ ولكنهم أحسنوا الظن بالله! فما مضت الأيام ولا انقضت الأعوام إلا وهم أئمة هدى، ومشاعل خيرٍ وحب لله ورضا، فأحسِن الظن بالله جل جلاله، وكن قوي العزيمة على طاعة الله، وقد تأتيك المحن التي تحتاج إلى الصبر في أهلك وذويك؛ فتجد من يخذِّلك عن طلب العلم، ويجعل العوائق بينك وبين طلب العلم من حاجات الناس، وحاجات الأهل وأغراضهم، فاستعن بالله، فإنه نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
لا بد من الامتحان والاختبار حتى في طلب العلم، ولا يزال طالب العلم يُبتلَى ويمتحَن، حتى أنه يبتلَى وهو في مجلس العلم، ويُختبَر حتى في العلم الذي يتعلمه، ولذلك إذا نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجدته من أول لحظةٍ في الوحي إلى آخر لحظةً من الدنيا وهو يتقلب في البلاء صلوات الله وسلامه عليه.
فأول لحظةٍ في الوحي: أخَذَه جبريل فغَطَّه حتى رأى الموت.
وآخر لحظةٍ من الدنيا قال فيها: (آه! إن للموت لسكرات).
فلا بد من البلاء، ولا بد من الامتحان، ولذلك حكمةٌ من الله عز وجل أنه جعل الدنيا دار بلاءٍ وعناءٍ وعِنَّةٍ على المؤمن؛ ولكن هذا البلاء رفعةٌ للدرجات، وتكفيرٌ للسيئات، ومضاعفةٌ للأجور والحسنات، وكم من إنسانٍ صُبَّ عليه البلاء فأمسى يوم أمسى وصحيفته مملوءةٌ بأجورٍ لا يجدها بكثير صلاةٍ ولا صيام.
فاصبر على طلب العلم واحتسب البلاء الذي تجده، واحتسب عند الله ما يقال عليكَ أو يقال لك، فقد يُبْتَلى الإنسان حتى بمدح الناس وَثنائهم، فإن الجاه والسمعة والشهرة قد تقتل الإنسان من حيث لا يدري، فما على الإنسان إلا أن يجاهد ويحتسب عند الله عز وجل أن يثبته وأن يوفقه.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم أئمة هدى، هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
أحبتي في الله: إن العلم مسئوليةٌ عظيمة، وواللهِ ما من جماعةٍ انفردوا بهذا العلم وأخذوا على أنفسهم أن يكونوا طلاب علم إلا تحملوا المسئولية بين يدي الله عن ذلك، ولذلك كل طالب علمٍ دخل إلى جامعة، أو جلس في حلقة، أو لازمَ شيخاً فليعلم أنه بمجرد دخوله وبمجرد ملازمته قد وَضَع قدمه على عتبة المسئولية بين يدي الله جل جلاله، وأنه سيحمل على ظهره أمانة يُوقف بها بين يدي الله، إما أن تشقيه وإما أن تسعده وترضيه.
فاعلموا إخواني أن التخصص في العلم وحل هذه الحِكَم من الكتاب والسنة ما هي إلا حجج تكون للإنسان أو على الإنسان.
جاء بعض السلف إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكان يسألها المسائل، فقالت له يوماً من الأيام: [أَيْ بُنَي، أَكُلَّ ما عَلِمْتَه عَمِلْتَ به؟! فقال: يا أماه، إني مُقصر.
وجلس يشتكي من تقصيره، فقالت له: يا بُنَي! لِمَ تستكثر من حُجَج الله عليك؟!].
فينبغي لنا أن نستشعر أن هذا العلم الذي نتعلمه حُجَجٌ لله علينا، وأن وراءنا أمم تنتظر هذا الوحي بفارغ الصبر، وراءك أهلُك ينتظرون هذا العلم الذي تتعلمه، وراءك حيُّك ينتظر هذا العلم الذي تتعلمه، وراءك أهلُ بلدتك وعشيرتك ينتظرون هذا العلم الذي تتعلمه، فاتقِ الله فيما تعلمتَ، وكن غيوراً على هذا الدين، وبُث الحِكَم من كتاب الله وسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
فاحتسبوا -إخواني- الأجر عند الله، واعلموا أن هذا العلم لا يُراد به الدنيا، وإنما يُراد به ما عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرِح رائحة الجنة).
اللهم إن نسألك الإخلاص في العلم والعمل، ونسألك بعزتك وجلالك أن تجعل هذا العلم حجةً لنا لا حجةً علينا.
وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله وصحبه أجمعين.