أول دعائم الحب في الله: إخلاص العمل لله, أن تفتح القلب وأن تشعر أن الله يسمعك ويراك, فيرى هذا العمل من القلب وليس لأحد له فيه حظ ولا نصيب, تفتح قلبك لا لجمال, ولا لمال, ولا لحسب, ولا لنسب, ولكن لله جل جلاله, حينما تحب المسلمين ولو كانوا عنك بعيدين, وحينما تحبهم ولو خالفتهم لوناً أو مرتبة أو عزاً أو شرفاً فلا فضل إلا بالتقوى.
إنه الحب الخالص لله، وما الذي ضر كثيراً من الشباب اليوم غير دخول الدواخل في المحبة لله, فكم من شباب في بداية الهداية والاستقامة فتحوا القلوب لله جل وعلا حتى وجبت لهم المحبة من الله والرضا، فما مضت الأيام إلا والمجالس عامرة بذكر الله الملك العلاَّم, وكم من شباب -في بداية الهداية- وجدوا طعم الأخوة ولذة الحب في الله, لما كانت القلوب خالصة لله علام الغيوب، يوم خرج الشاب من بيته يتعطش لأخٍ يواسيه أو يسليه أو يثبته على طاعة باريه, فخرج من البيت صادقاً محتسباً مخلصاً لله جل جلاله, ولكن تغيرت القلوب فغير الله عز وجل ما بها من الخير إلا أن ينيب العبد أو يتوب.
لذلك أيها الأحبة في الله! الوقفة الأولى مع الحب في الله: أن يكون خالصاً لله جل وعلا, الحب في الله عبادة تعلقت بالقلوب، فكما أن اليد والقدم والجوارح تتقرب إلى الله، كذلك للقلب أعمال تكون عبادة بينه وبين الكريم المتعال, ومن أعمال القلوب التي يجب إخلاصها لله علام الغيوب: الحب في الله جل وعلا أشرف وأعز مطلوب.
أما الوقفة الثانية: فإنك إن أخلصت لله جل وعلا فاعلم أن إخلاصك في الحب لله له أمارات وعلامات ومن أجلها وأشرفها: أن تحس أن قلبك اتجه لأخيك طاعةً لباريك، لا لأي شيء سوى ذلك, أن تتجه شُعب هذا القلب إلى الإخوان والخلان, إما لطاعة من ذكر أو شكر أو عناء أو عبادة أو خوف أو إنابة أو خشوع, ترى أخاك يوم تراه راكعاً فتحبه لركوعه, أو ساجداً فتحبه لذلته وخضوعه, أو يده سخاء على الأيتام والأرامل فتحبه من خلال ما يحبه الله من القول والعمل, تحبه من جهة الأعمال الصالحة والقربات والطاعات, ولذلك أحق من يحب في الله, وأحق من يتأذن الإنسان بأخوته في الله هم العلماء والدعاة إلى الله, لأنهم أعظم الناس خيراً وأعظمهم طاعة وبراً, إذا نظرت إلى العالم استهوى قلبك ما فيه من الخير الكثير والفضل المستطير, ذلك الخير الذي نفع الله به القلوب فأنار به السبل والدروب, فتحب العالم يوم تحبه, وكأن لسانك يقول: أحبك يا عالم الأمة من سنة أحييتها, أو بدعة أمتها, أو شعيرة أقمتها؛ تحبه حينما تتذكر، فكم من تائه أرشده, وكم من طالب علم علمه, وكم من ليل اكتحل السهر فيه لكي يحل للأمة معضلة, أو يكشف لهم مدلهمة أو مشكلة, تحبه من قلبك لأنه على ثغر من ثغور الإسلام, حتى إذا نظرت إلى ذلك الداعية إلى الله, نظرت إليه يوم نظرت وقد تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه وبيانه, تجذب القلوب إلى الله, وتنير الدروب في محبة الله لا يرجو الثواب إلا من الله, فيتجه قلبك إليه لله وفي الله, حتى إذا فعلت ذلك أحبك الله بحب أوليائه، وتأذن لك بذلك الحب الذي لم يستوجبه عبد إلا وفق للخير كله.
حب العلماء وحب الدعاة والهداة إلى الله سمة من سمات الصالحين, فكلما كان الإنسان صالحاً مستقيماً براً سائراً على نهج ربه فإنه يحب العلماء من كل قلبه, كلما تمكن الإيمان من القلوب كلما اتجهت إلى أولئك الصلحاء وأولئك الأخيار, الذين تأذن الله لهم بالحب في الأرض والسماء, فوضع لهم القبول بين العباد ونشر خيرهم بين الحاضر والباد, فهذه من أعظم الدلائل على الحب في الله.
ولقد ضرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الصادق حينما أحبوا النبي صلى الله عليه وسلم صدق المحبة, أحبوه للنبوة, أحبوه لعظيم بلائه للأمة, أحبوه حينما رأوا ذلك الخير العظيم والنفع العميم الذي أجراه الله على لسانه صلوات الله وسلامه عليه.
بعثت قريش رجلاً يوم الحديبية لكي يكشف خبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتفاوض معه في صلح الحديبية، فخرج سهل حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم, فهاله ذلك المنظر المهيب من حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, فلما رجع قالوا له: ما وراءك يا سهل؟ ما الذي رأيته؟ ما الذي سمعته؟ فقال سهل: والذي يحلف به سهل من اللات والعزى لقد دخلت على كسرى وقيصر فما رأيت أشد حباً من أصحاب محمد لمحمد, والذي يحلف به سهل ما رفعوا أبصارهم إليه إذا حدثهم, ولا تنخم نخامة إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه، رضي الله عنهم وأرضاهم, وتأذن بأعالي الفردوس مسكناً لهم ومثواهم، إنهم الصحابة الذين أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أصحابه.
ولقد ورث التابعون هذا الحب الصادق فأحبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فما كان الرجل من التابعين يرى عالماً من علماء الصحابة إلا كاد أن يرفعه على رأسه لعظيم حبه له في الله جل جلاله.
دخل أبو إدريس الخولاني رحمه الله على الجامع بدمشق , فرأى رجلاً براق الثنايا يجتمع الناس حوله, إذا اختلفوا رجعوا إليه, فيفصل بينهم فيما اختلفوا فيه, فسألهم وقال: [من هذا الرجل؟ قالوا: معاذ بن جبل صاحب النبي صلى الله عليه وسلم, يقول رحمه الله: فلما كان اليوم الثاني بكرت وهجرت -أي: جئت مبكراً إلى المسجد في الهجير, وذلك بعد صلاة الظهر لكي يدرك صلاة العصر- قال: فلما دخلت المسجد وجدت معاذاً قد سبقني إليه] رضي الله عنه وأرضاه, كانوا أئمة ومشاعل نور في القدوة الصالحة- قال: فلما قضى صلاته أتيته من قبل وجهه وقلت له: إني أحبك في الله.
قال: آلله, قلت: آلله -أي: أحبك في الله- قال: آلله, قال: والله-أي إني أحبك في الله- فقال رضي الله عنه وأرضاه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ, وللمتزاورين فيّ, وللمتجالسين فيّ) فكان التابعون رضوان الله عليهم يحبون علماء الصحابة ويجلونهم، وما زالت هذه الأمة تعظم علماءها ودعاتها وأهل الخير بينها, ولن تجد الأمة ترفع من شأن العلماء وتحب الدعاة والصلحاء إلا جمع الله بهم الشمل, فاتحدت بهم الكلمة وحصل الخير العظيم والنفع العميم, فكم من أزمنة خلت وأيام مضت كانت الأمة في أوج عزها، حينما أكرمت العلماء وأعزت الدعاة والهداة إلى الله لعلمهم أنهم دعاة الخير, وهداة الخير وأهل السداد والرشاد, فطوبى لمن أحبهم في الله, وتأذن بالحب من الله.