ثم إذا أدى شعائر الحج بين جموع المؤمنين، وعاش تلك الساعات واللحظات التي يقف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متذللاً متبذلاً خاشعاً متخشعاً تذكر عظمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومن أعظم ما يذكر به العبد في عبادة الحج الدعاء، فمن أعظم المشاهد تأثيراً في النفوس وتأثيراً في القلوب مما يزيد العبد ثقة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإيماناً وإيقاناً فيه جل جلاله، إذا تأمل ونظر وادّكر واستبصر في هذه الأمم التي اجتمعت على اختلاف لغاتها، وتعدد لهجاتها، وتباين أقطارها وأمصارها، وإذا بها في لحظة واحدة ترفع أكفها إلى الله، فلا يخفى عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مكانها، ولا تخفى عليه أصواتها ولا لهجاتها، ولا تخفى عليه مسائلها ولا تعييه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حوائجها.
الله أكبر إذا عجت ببابه الأصوات، واختلفت المسائل والحاجات، وتباينت في اللغات واللهجات، ففتح الله أبواب سماواته، وتأذن بنزول رحماته ومغفراته وبركاته، فلم تعييه المسألة، ولم تعجزه حاجة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يسمع دبيب النملة في الليلة الظلماء، تقول عائشة رضي الله عنها: [والله إني لمن وراء الستر وخولة تجادل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زوجها يخفى عليَّ بعض كلامها فسبحان من وسع سمعه الأصوات] فسمعها من فوق سبع سماوات، امرأة مظلومة جاءت تشتكي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت عائشة يخفى عليها بعض كلامها، وليس بينها وبين المرأة إلا الستارة، والله يسمعها من فوق سبع سماوات يسمع جميع هذه الأصوات فتقول: لا إله إلا الله، الله أكبر حينما يحتاج العبد حاجة والله يعلمها قبل أن يحتاج ومطلع عليها قبل أن تكون: علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، سُبْحَانَهُ جل جلاله وتقدست أسماؤه.
تضطرب كتفك بجوار الأكتاف، ويضطرب جسم الإنسان مع غيره من إخوانه وخلانه في الإسلام، ومع ذلك كله يسمع شكواهم ومسائلهم وحوائجهم، فيوقن بأنه لا إِلَهَ إِلَّا الله، هل طردنا الله عن بابه -حاشاه- حتى نقف على أبواب المشاهد والقبور؟ هل ردنا الله سبحانه عن دعائه حتى ندعو غيره ونتوسل بما سواه؟ هل عظمت حوائجنا على الله سبحانه وتعالى حتى تنزلها بغيره؟ لا والله {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88] {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83] (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته وما بلغته أمنيته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) لا ينقص من ملك الله جل جلاله شيئاً ولا يعجزه شيء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
تأمل رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يخرج المحتاج من أهله وولده وحِبه، والله ما أخرجه إلا لشيء أعظم وأفضل مما خرج منه، ولا يمكن أن يخرج الإنسان من تلك الشهوات وتلك الملاذ، ومن بين الأبناء والبنات إلا عوضه الله خيراً مما ترك؛ لأن الله كريم، فتؤمن بلا إله إلا الله وتوقن أن عند الله فضلاً ورضواناً، وأن الله ما أخرج هذه الجموع إلا لفضله ورحمته.
ولذلك أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله رضي لمن آمن به ووحده، ونزل في تلك المنازل موقناً مؤمناً مخلصاً، وأدى الشعائر على أتم الوجوه وأكملها، أن يرجع إلى أهله بلا ذنب ولا خطيئة.
أن يرجع إلى أهله كيوم ولدته أمه أن يرجع إلى أهله وولده نقياً من الذنوب والخطايا، فلربما رجع إلى أهله وولده وقد عتقت رقبته من النار، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
فإنه قد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه الرقاب من النار من يوم عرفة) ومعنى العتق من النار: أنه لا يمكن أن يدخل العبد النار أبداً، مهما كان حاله، ولاشك أن هذه بشارة له أنه سيموت على التوحيد، ويموت على الإيمان، ويموت على خصال الخير والبر، ويختم له بخاتمة السعداء جعلنا الله وإياكم منهم.
يوقن العبد وهو يرى هذه المشاهد يرى هذه الأمم كلها جاءت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيزداد ثقة بالله جل جلاله ويتفكر ويتدبر هل حاجتي تعجز الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كلا والله، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فبمجرد أن ترى ذلك توقن إيقاناً كاملاً أن مسائلك وحوائجك لا ينبغي أن تنزل إلا بباب الله جل جلاله، فالدعاء والسؤال والحاجة لا يجوز أن تنزل إلا بالله وحده لا شريك له، ومن أنزل حاجته بغير الله زاده الله فقراً، ومن أنزل حاجته بالله تأذن الله له بالفرج العاجل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11].