وكان السلف رحمهم الله يعيشون مع القرآن خشوعاً، ويعيشون مع القرآن عملاً وتطبيقاً، فكان الواحد منهم إذا ذكر بالآية من كتاب الله تذكر، وإذا بصر بالآية من كتاب الله تبصر، فكان حي الفؤاد، سليم القلب، يعيش مع القرآن بالعمل والتطبيق، كما يعيش معه بالقراءة والتفكر والتدبر.
ولذلك قد يعطى الإنسان -أحد الثقلين- يعطى تفكراً وتدبراً، ولكن يحرم العمل، ومن الناس من يعطى العمل، ولكن يحرم بعض الخشوع والتدبر، فبعض الناس للخير سباق، ولطاعة ربه مشتاق، ولكنه لا يجد في قلبه الأثر في الخشوع، فتجد كثيراً من الأخيار الآن يقول: والله إني أحب الخير، وأحب طاعة الله من قلبي، ويعلم الله ذلك، ولكنني أقرأ القرآن، وأحس أني لا أتأثر بالقرآن، فهو مستعد للعمل مستعد للتطبيق، ولكن الله حرمه الخشوع.
فأسعد العباد في القرآن من جمع الله له بين الخصلتين، وأصابت كلا الحسنيين، فكان متأثراً بالقرآن، إذا سمع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] تحرك فؤاده وقلبه، وقال بلسان حاله ومقاله: لبيك رباه! لبيك سيدي! بماذا تأمرني؟ حتى إذا جاءه الأمر قال: سمعا ًوطاعة، فلا يقدم قدماً على كتاب الله، ولا يؤخر أخرى عن كتاب الله ومرضاة الله، فهؤلاء هم أسعد العباد، الذين جمع الله لهم في القرآن بين التفكر والتدبر، وبين العمل والتطبيق.
ما الفائدة إذا خشع الفؤاد من كلام الله، وخشع القلب لآيات الله، وإذا جاء العبد عند العمل تقاعس عن مرضاة الله، وأصبح يسوف في طاعة الله عز وجل؟ الخشوع الصادق والتدبر الصادق يحرك الوجدان إلى العمل، ويحرك القلب والقالب إلى التطبيق، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا جاءتهم الآية من كتاب الله حركتهم للعمل.
جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: [يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245] قال: يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو رب العالمين؟] سبحان الله! ما أحيا ذلك القلب، كم منا من يقرأ هذه الآية وما تحرك عنده هذا السؤال، الله ملك الملوك ومالك الملك، يقول لك: أقرضني، تحرك هذا السؤال لحياة قلب صاحبه، فقال: [يا رسول الله! أيستقرضنا الله وهو غني عنا؟!] قال عليه الصلاة والسلام: (نعم ... ) أي: يستقرضنا؛ لأن ذلك موجود في كتابه، فقال: (نعم.
يستقرضكم ليرفع من درجاتكم، ويكفر من خطيآتك).
قال: [يا رسول الله! إن لي في المدينة حائطاً فيه ستمائة نخلة هي أعز ما أملكه، أشهدك أنها لله ورسوله] ستمائة نخلة! ورد في الحديث عن علي رضي الله عنه أن الرجل كان يعمل في سقي الدلو بتمرة واحدة، فكيف بستمائة نخلة، ستمائة نخلة حياة عاش من أجلها يكافح ويجاهد حتى أصبح ثرياً يملك ستمائة نخلة، ومع ذلك هانت عليه بآية من كتاب الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] فنظر إلى أحسن قرض يقدم مما يملكه، وأعز ما يجده، وهو هذا البستان الذي يحيا به، وتحيا به ذريته.
فخرج رضي الله عنه وأرضاه إلى ذلك البستان، فوجد أم الدحداح قد جلست مع صبيانها تجمع ذلك التمر والرطب والبسر الذي تساقط من ذلك النخل المبذول لوجه الله، تجمعه لكي تستفيد منه، فقال لها رضي الله عنه يخاطبها شعراً: بيني -أي: اخرجي- من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي أقرضته الله على اعتمادي إلى رجاء الضعف في المعاد والبر لاشك فخير زاد قدمه المرء إلى التنادي فماذا قالت تلك المرأة الصالحة؟ تلك المرأة التي تعرف ربها وتحيا لطاعة خالقها، هل قالت: ضيعتنا، هل قالت: هدمت حياتنا؟ قالت له تخاطبه بما خاطبها: بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ومنح قد متع الله عيالي وفرح بالعجوة السوداء والزهو البلح والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح ثم ضربت أيدي صبيانها، وخرجت من الحائط بلا تمر.
أين هذه القلوب المؤمنة؟ أين هؤلاء الذين يتحركون للقرآن؟ آية واحدة من كتاب الله حركت هذا الصحابي الجليل، لكي تجود يده في مرضاة ومحبة الله، إيمان وتصديق وثقة برب العالمين، ومحبة في سبيل مرضاة رب العالمين.
أحبتي في الله! هذا حال سلفنا الصالح، ولماذا صلحت أيامهم؟ وبماذا صلحت أحوالهم؟ هل ذلك إلا بكتاب الله، والله ما حرك الأخيار للخير، ولا حرك الأبرار للبر، ولا حرك أهل الصلاح للصلاح شيء مثل كتاب الله، ولن تجد مؤمناً صادقاً في إيمانه وطاعته، تقياً براً عفيفاً صالحاً في القول والعمل، إلا وجدت كتاب الله يحرك فيه كل صغير وكبير، ويحرك فيه كل جليل وحقير، القرآن له أثر عظيم في القلوب، له أثر عظيم في تلك النفوس التي تقدره قدره، وتعطيه حقه، وتقف معه في عظاته وآياته وما يذكر به رب العالمين.