Q أثابك الله يا شيخ ونفع بعلمك، أما هذا السؤال فضيلة الشيخ، فهو من القضايا الأساسية في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي العلم الصحيح وسلامة المنهج، ولكن هناك قضية يغفل عنها كثير من الدعاة، وقد لا يهتدي إليها إلا القليل، ولا يملك مفتاحها ولا يعرف أسرارها إلا الأقل، ألا وهي قضية كسب قلوب الناس ومحبتهم، فما السبيل إلى ذلك؟
صلى الله عليه وسلم لا شك أن ما تضمنه السؤال من الحرص على قضية العلم، هي قضية أساسية، فالعلم نور، ومن جعل الله له هذا النور فقد أبصر السبيل، وكان الله له دليلاً ونعم الدليل، ولذلك العلم مفتاح كل خير ومنبع كل فضل، وللإمام ابن القيم كلام ما معناه: إن الإنسان يبصر بنورين: نور من داخله، ونور من خارجه، أما النور الداخلي فالبصر، وأما النور الخارجي فالشمس والشعلة المضاءة، فلو انطفأ أحد النورين لم يغن الآخر عنه، ولذلك -مثلاً- لو عمي الإنسان لا تنفعه الشمس، ولو وجد نور العين والشمس غير موجودة والمكان مظلم أتنفع العين؟ لا تنفع، إذاً لا بد من نورين: نور داخلي ونور خارجي، ولذلك يقولون في قوله تعالى: ((نُورٌ عَلَى نُورٍ)) [النور:35]، نور العقل الذي جعل الله عز وجل به معرفة الخير من الشر، ونور الإيمان والعلم، فقال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، جعلنا الله وإياكم ممن هداه.
فلا بد من أمرين، العالم لا شك أنه على نور من الله، ولذلك يقول بعض العلماء، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات} [الأنعام:122]، قال بعض العلماء في هذه الآية: هذا مثل للعالم والجاهل، (أومن كان ميتاً فأحييناه) أحييناه بماذا؟ بالعلم (وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس) سبحان الله العظيم! إذا كان الناس في مكان مظلم، وجاء شخص معه نور، فكل الناس ستتبع هذا الذي معه نور، لا يمكن لأحد أن يتركه، إلا إنساناً ليس عنده عقل.
قضية كسب القلوب، هي سر الصنعة كما يقولون، هذه أمور بيد علام الغيوب، القلوب مفاتيحها بيد الله عز وجل، فكسبها يحتاج إلى أمور: أولها: الإخلاص؛ فالمخلص هو الذي يفتح الله له القلوب، ولذلك رب كلمة صادقة من إنسان مخلص تدخل إلى سويداء القلوب، ويحيي الله عز وجل بها قلوباً طالما ماتت، ورب كلام كثير غير يسير لا يجد الإنسان له أثراً، ولا يجد له تفاعلاً مع نفسه، وكما قال بعض السلف عن سبب تأثيره في غيره، قال: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة، فالنائحة الثكلى هي التي أصيبت، أما النائحة المستأجرة فتصيح بدون صدق، تصيح من أجل الدراهم، لكن الثكلى تصيح من أجل ولدها، لذا تصيح من قلبها، فكأنه يقول: إن الكلمة لما تخرج من القلب تقع في القلب، وهذا من عدل الله عز وجل، الله عدل، ووصف نفسه بالعدل المطلق الذي هو غاية العدل، لا يمكن أن يسوي بين إنسان يرائي ويسمع، وإنسان يريد وجهه.
فبينهما كما بين السماء والأرض.
ولذلك أول شيء تريد أن تكسب به القلوب في الدعوة إلى الله يا طالب العلم! يا داعياً إلى الله! أو أنت في أي مكان كنت، ولو كان الإنسان عامياً يريد أن يكسب القلوب، فأول شيء ينصح به الإخلاص.
الأمر الثاني مما يعين على كسب القلوب: التزام الشرع أو الدين؛ لأن الله عز وجل كتب المحبة لأوليائه، ما من إنسان يلتزم كتاب الله إلا قذف الله في قلوب عباده حبه، أياً كان هذا الرجل، قال تعالى مصداقاً لذلك: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] (وُدًّا): يعني: محبة في الصدور، قال بعض العلماء: العمل الصالح سبب لمحبة العبد.
إذاً الأمر الثاني بعد الإخلاص: قضية الالتزام بالشرع، ولذلك الداعية الذي يلتزم بما يقول ويعمل بما يقول يتأثر به الناس أكثر من الداعية الذي يقول ما لا يفعل.
الأمر الثالث مما يعين على كسب القلوب: التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من أحب العباد إلى العباد، وكانت القلوب تحبه قبل أن ينطق بمنطقه صلوات الله وسلامه عليه، فقد قذف الله المحبة فيه؛ بمنطقه ومخبره ومنظره قبل مخبره صلوات الله وسلامه عليه، فعندما تلتزم سيرته سيكون لك الأثر، لماذا قذف الله في قلوب العباد حبه؟ بسبب آدابه وأخلاقه، فطالب العلم أو الداعية أو العامي، أي إنسان إذا التزم بآداب النبي صلى الله عليه وآله وسلم -سبحان الله! - الزوجة تكرمه والابن يكرمه، فهو عندما يطبق السنة، ويحاول أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أموره العامة والخاصة، حتى في شئون الطعام والأكل والشرب والمنام، ويحتسب عند الله التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد فترة يجد المحبة ويحس بها دون أن يخسر شيئاً، فتتجه القلوب إلى محبته؛ لأن الله يحب السنة؛ لأنها هي الحكمة التي أوحاها إلى نبيه، ويحب أهلها، وإذا أحبك الله وضع لك المحبة في قلوب عباده.
الأمر الرابع الذي يعين على محبة الناس وكسب قلوبهم: المحافظة على مشاعرهم في حدود الشرع، لا يكون الإنسان فظاً غليظاً، وهذا أشار إليه الله تعالى حينما قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] إذاً لا بد أن يكون الإنسان حليماً رحيماً، المرأة التي جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرب من مزادتها، وتفجر الماء بين أصابعه، ما قال لها: أنت مشركة، أنت ضالة، أنت كذا، وإنما أحسن إليها وأرسلها، فلما ذهبت إلى قومها قالت: جئتكم من عند أسحر الخلق، إما أنه نبي أو ساحر.
عيينة بن حصن الفزاري جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما قال له أنت مشرك ضال بعيد عن الله عز وجل -جابهه مباشرة- وإنما أعطاه وادياً من النعم، فلما سرى به إلى أهله قال: يا قوم! أسلموا، فوالذي يحلف به عيينة لقد جئتكم من عند رجل لا يخشى الفقر.
ملك القلوب بالإحسان، والآداب والأخلاق، والإنسان عندما يكون مثلاً بين العوام، أو يريد أن يهدي أناساً ضالين، فلا يفكر أنه ركب على أكتافهم، أو أن بيده مفاتيح الجنة والنار، يدخل من شاء ويخرج من شاء، لا.
فالأمر يحتاج إلى تقريب القلوب إلى الله عز وجل، ويحتاج إلى حكمة في ذلك التقريب، فإذا وفق الله عز وجل الإنسان لذلك كسب القلوب، وإذا بها بعد فترة تحبه شاء أم أبى، الناس تخسر الملايين من أجل أن يحبوا وأن يكرموا، فالتجار وأهل السمعة والفنانون وغيرهم يخسرون الملايين من أجل أن يحبوا، ولكن طالب العلم لا يخسر شيئاً، فقط يصلح ما بينه وبين الله فيجعل الله له القبول في الأرض، مجرد أن ترى الشخص من عباد الله الأخيار الملتزمين بالكتاب والسنة، تحبه بسبب ماذا؟ الدين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] هذه من المعزة التي كتبها الله لخاصة عباده -جعلنا الله وإياكم منهم-، وعندما تذكر الناس أول شيء ذكرهم بقلب صادق، مثلاً إذا جلس إنسان مع ولده ووالده وأهله وقرابته يريد أن يذكرهم بالله، يقول بعض العلماء: انظر إلى نفسك إن كان رأى الإنسان أخاه أو أخته على معصية، فجاء من باب الغيرة، يعني كيف الأخت تفعل كذا، كيف الأخ يفعل كذا، كيف ابني يفعل كذا، أصبحت ما هي لله، بل أصبحت غيرة للناس، إذا كنت تريد أن تكسب قلبه للدعوة، فلابد أن تكون لله، وتنظر إلى بعده عن طاعة الله وبعده عن سبيل الله وتنطلق من هذا المنطلق.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ممن كتب الله له حبه ومتعه بحبه وحب خلقه.
والله تعالى أعلم.