فضل حسن الخلق

Q معلومٌ لديكم فضل حسن الخلق، ولين الجانب والتواضع، ولكن نرى من حال بعضنا عكس هذا الأمر، فهل من نصيحة حفظكم الله؟

صلى الله عليه وسلم إن الله جل وعلا إذا رزق المؤمن الإيمان كمّل خصاله، وجمّل خلاله، وجعله من عباده الموصوفين بالفضائل، المترفعين عن الرذائل، فمكارم الأخلاق، ومحاسن الأخلاق خصلةٌ من خصال المؤمنين، وخلة من خلال الصالحين، ولذلك أثنى الله بها على نبيه في كتابه المبين، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فأثنى على نبيه عليه الصلاة والسلام بالخلق، وما أعظم الخلق وما أجله عند الله وعند عباده! حتى ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سئل عن أثقل شيء في الميزان قال: (تقوى الله وحسن الخلق) وقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) قال: خيركم، أي: أكثركم خيراً وأرفعكم عند الله قدراً؛ لأن الأخيار هم أرفع الناس قدراً عند الله جل وعلا.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله الصحابة وقد سمت أرواحهم إلى الجنة، واشتاقت إلى رحمة الله جل وعلا عن أعظم ما يدخل المؤمن الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: (تقوى الله وحسن الخلق) فأكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله جل وعلا وحسن الخلق، أما تقوى الله فبينك وبين الله، وهو غيب لا يعلمه إلا الله، وأما حسن الخلق فبينك وبين الناس، ولذلك من أجل نعم الله عز وجل على العبد حسن الخلق.

وقال بعض السلف: إنما أدرك من أدرك لا بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن ببذل الندى وكف الأذى.

والمراد بهذه العبارة أن هذا العالم من السلف يقول: إنما أدرك من أدرك، أي: أن الأخيار والصالحين والفضلاء والنبلاء وأهل الخير من سلفنا الصالح ما وصلوا إلى الدرجات العلا بعد الإيمان، إلا ببذل الندى وكف الأذى، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أثقل ما يكون في الميزان، وبذل الندى: الجود والسخاء، وكف الأذى: أساسه الحياء والمروءة الفاضلة التي تمنع الإنسان من أذية إخوانه.

فإذا كمل إيمان العبد كمل خلقه، وإذا كمل نبله وفضله كملت آدابه، وأصبح ممن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أقرب الناس منه مجلساً يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) هل قال: العالم أو العابد أو المجاهد؟ لا، قال عليه الصلاة والسلام: (أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) أحاسنكم أخلاقا، أي: أنك لن تنظر إليه إلا وجدته قد أخذ من حسن الخلق بحظ وافر، إن وجدته في السماحة وجدته بلغ منها أعلى مراتبها، وإن وجدته في الجود والسخاء وحسن العشرة وبذل المعروف، وجدته في أعلى مراتبها.

ولذلك لن تقرأ سيرة عالم من علماء السلف إلا وجدت حسن الخلق سمة من سماتهم رحمة الله عليهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (أحاسنكم أخلاقاً) ما قال: أحسنكم، أي: الذين كثرت منهم الأخلاق الطيبة، وقال بعض العلماء: قلَّ أن تجد إنساناً كريم الخلق إلا وجدته نقي الصدر؛ لأن مكارم الأخلاق لا تكون إلا بسلامة الصدور، وقلَّ أن تجد إنساناً فظاً غليظاً كثير الجفاء للناس، وكثير الأذية لهم، إلا وجدت في قلبه من الضغينة والبغضاء ما يحمله على ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- لأن الأخلاق ما هي إلا نتيجة عما في السرائر والقلوب.

والله جل وعلا إذا اطلع على سريرة الإنسان، ووجدها سريرة صالحة فيها الخير والفضل والنبل، أظهر هذه السريرة لعباده في الأخلاق الطيبة، ولذلك قال: (أحاسنكم أخلاقا) إن آذاه أحدٌ عفا عن أذيته، وإن أحسن إليه رد له الإحسان أضعاف إحسانه، فإن عاشر الناس، إن أحسنوا إليه أحسن إليهم أكثر من إحسانهم، وإن أساءوا إليه اجتنب إساءتهم، وإن نظر إلى عوراتهم سترها، وإن نظر إلى خلاتهم وما هم فيه من الحوائج قضاها وقام بها.

وقد أُثر عن علي زين العابدين -ذلك الإمام الجليل من أئمة السلف الصالح علماً وفضلا ًونبلاً رحمة الله عليه- أنه كان إذا جَنَّ عليه الليل وضع اللثام على وجهه، ثم حمل على ظهره أكياس الطعام، ومضى إلى بيوت يعرفها للأيتام والأرامل -رحمة الله عليه- ثم أطعم وسقى واقتحم العقبة، ففك الرقبة، وأطعم ذا المسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، رحمة الله على تلك الروح الطيبة، فلما توفي فقد أكثر من عشرين بيتاً -ممن يقرع عليهم في جوف الليل أبوابهم بذلك الطعام- فعلموا أنه ذلك العالم وذلك العابد، وكان في زمانه آيةً في العلم والصلاح مع ماله من النسب؛ لأنه ابن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الله له بين هذه الخيرات والفضائل، يقول في مدحه الفرزدق: ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم أي: ما جاءه أحد يسأله شيئاً فقال له: لا.

وهذا من كمال خلقه وزينها رضي الله عنه ورحمه برحمته الواسعة.

فلما أرادوا أن يغسلوه ويكفنوه؛ خلعوا ثيابه فنظروا فإذا ظهره متشحط من الدم؛ بسبب أكياس الدقيق التي كان يحملها رحمة الله عليه.

فسلامٌ على تلك القلوب الرحيمة، وسلام على تلك الأخلاق الكريمة، وتلك المعادن الأبية الصالحة التي كانت ترجو ما عند الله، وتريد رحمة الله جل وعلا، كان السلف الصالح رحمة الله عليهم لهم من الأخلاق والفضائل والنوائل ما تضرب به الأمثال.

واقرأ في سير الرجال، قد تجد العلم في العالم سمة من سماته، ولكن ما إن يبدأ باب الأخلاق، ويذكر أنه ذلك الرجل المتواضع الكريم السمح، إلا وينفتح قلبك لتلك الخصال، وينشرح صدرك لتلك الخلال وقلت: سبحان الله الكبير المتعال! سبحان من يقسم الأرزاق! ولذلك ورد في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم) وإن الله لا يعطي الأخلاق إلا لمن أحب، أما الدنيا فيعطيها لمن أحب ومن كره، أما الأخلاق والفضل والنبل والصلاح، وهذه الخصال التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً) ما معنى الموطئون أكنافا؟ توطئة الكنف في التواضع، بمعنى أنه سهل أن تبلغ حاجتك منه، ويسير عليك أن تأخذ بغيتك من يده الطيبة، ما تجده صعباً بمجرد أن تأتيه، حتى إن بعض الأخيار كان من خيره أنه إذا جاءه الفقير ورأى في وجهه الفقر، عاجله بالعطية قبل أن يسأله الفقير المال، وهذا الكرم والفضل والنبل، وكان بعضهم يستحي أن يذكر الفقير حاجته قبل أن يعاجله بذلك العطاء، فكان الناس على خير كثير.

وقال بعض العلماء: لا تكون محاسن الأخلاق إلا برحمة من الله جل وعلا، وأول ما تكون محاسن الأخلاق وكريم الخلال للإنسان برحمة يقذفها الله في القلوب، ومصداق ذلك في قوله تعالى يخاطب نبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] {فَاعْفُ عَنْهُمْ} [آل عمران:159] يعني: أن الإسلام ليس فيه إلا السماحة والعفو ولين الجانب، ولذلك وصف الله المؤمنين مع بعضهم فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] فإذا كمل إيمان العبد أصبح لا يستطيع أن يؤذي أحداً من إخوانه المسلمين، لا ترى منه إلا خيراً، بمجرد أن تلقاه أول ما ترى كريم الخصال وطيب الخلال.

ولذلك يقول جرير رضي الله عنه وأرضاه: [ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي] وكان صلى الله عليه وسلم لا يعبس في وجوه الناس، ولا يقهرهم، ولا يعرض عنهم، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، وهذه الخصلة في قوله: (الموطئون أكنافا) توطئة الكنف: القرب من الناس.

فإذا كنت طالب علم فاقترب من الناس بتوجيهك وإرشادك ولا تتعال بعلمك، ولا تفتخر على الناس بما حباك الله جل وعلا من العلم، بل تكون كما مثَّل العلماء كريم الأصل بالغصن الطيب، فإن الأغصان الطيبة إذا ملئت من الخير والثمرات تدلت للناس.

وهكذا كريم الأصل والعبد الصالح، الذي يريد الله به خيري الدنيا والآخرة كلما امتلأ علماً وفضلاً ونبلاً؛ كلما وجدته تدلى للناس، وزاده علمه قرباً من الناس، وأذكر علماءنا ومشايخنا -رحمة الله عليهم- كانوا من ذلك على حظ وافر، وأذكر عن بعض مشايخنا رحمة الله عليه -أكاد أجزم- أن كل إنسان يجالسه يحس كأن هذا الشيخ له وحده، وأعرف أناساً من عامة الناس بعضهم يعتبر ممن يتعاطى الحرف الدنيئة ومن ضعفة المسلمين، ربما جاء إلى ذلك الشيخ وجلس يمازحه ويضاحكه ويجالسه، كأنه جليسٌ من كبراء القوم، وما ذلك والله إلا لصلاحٍ في القلوب، وكلما وجدت الإنسان يتقي الله جل وعلا ويرجو رحمة الله، كلما وجدته يشتري هذه الرحمات بالأخلاق الكريمة خاصة مع ضعفاء المسلمين.

ولذلك قال بعض السلف رحمة الله عليهم في سفيان الثوري ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان، سفيان هذا ديوان من دواوين العلم والعمل والصلاح والفقه والحديث، كان إذا دخل الفقراء في مجلسه عزوا وأُكرموا، ورفعوا على الأغنياء والأثرياء والوجهاء، وهذا من كرم سفيان رحمة الله عليه.

فهكذا أهل الفضل أكنافهم موطأة.

(ألا أنبئكم) أي: أخبركم (بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون) إذا جئت بين الناس يألفك الغني والفقير، الجليل والحقير، يألفك الناس على اختلاف طبقاتهم، الجاهل يألفك والعالم يألفك، من كريم الخصال وكريم الخلال، إذا رأيت الرجل تبسمت في وجهه ثم سألته عن حاله، وتعطي هذه الابتسامة خاصةً لضعفاء المسلمين، فإن الابتسامة لضعفاء المسلمين ابتسامة صدق وحق ورحمة تدل على صلاح صاحبها.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015