Q فضيلة الشيخ! ما هي البركة؟ وكيف تكون؟
صلى الله عليه وسلم البركة هي: الزيادة والنماء والخير، فإنه ربما يكون الشيء عندك وهو قليل، فيضع الله فيه البركة، فتجد منه ما تجد من الكثير، وقد جاء في الحديث القدسي وذكره غير واحد منهم الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في الجواب الكافي وقد تكلم العلماء على سنده، لكن فيه كلمات عجيبة، يقول فيه الله تعالى: (إني أنا الله إذا رضيت باركت، وليس لبركتي منتهى، وإذا غضبت لعنت، وإن لعنتي لتدرك السابع من الولد) ولذلك ربما تجد نسلاً لا خير فيه، وربما تجد نسلاً مباركاً يخرج منه العلماء والصلحاء والأخيار، كما قال تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73].
فإذا بارك الله في الشيء نفع، وتكون البركة في علم الإنسان وعمله: تكون في علمه فيكون علماً مباركاً مبنياً على الكتاب والسنة والاهتداء بسلف الأمة، فهذا العلم المبارك.
والعمل المبارك هو عمل الصالحين، فتجده ما حل في مكان إلا فعل خيراً أو قال خيراً، كما قال تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] قالوا: أي داعيةً للخير.
ومن بركة الإنسان أين ما كان، أن لا يجلس في مجلس إلا ذكر الله، أو قال خيراً، أو دل على خير، أو فعل شيئاً من الخير، ولو بكلمة طيبة، هذه من بركات العبد؛ أي: مما وضع الله فيه من البركة، فالبركة في الطاعة والاستقامة والسير على نهج الله، وأساس البركة كتاب الله، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] فالقرآن مبارك، وكلما كملت بركته بالاتباع والتأسي كان الإنسان كثير البركة.
والبركة تكون في الأوقات، وتكون في الأموال، وتكون في الأولاد، وتكون في الصحة، وتكون في أشياء كثيرة، تكون في الأموال فربما أن الإنسان يستلم راتباً ألف ريال كأنها عشرة ريال في الجيب تمحق بركتها والعياذ بالله، فما يمكث اليوم واليومين إلا وهو مديون، وربما تجد الرجل راتبه العشرة ألف والعشرين ألفاً لا بركة فيها نسأل الله السلامة والعافية، فما ينتصف الشهر إلا وهو يتدين، والسبب في ذلك المعصية، فالمعاصي والحدود والكبائر تمحق البركة من الأموال، ولذلك كلما أطاع العبد بورك له في ماله والخير {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96].
فأخبر أنه إذا حصلت التقوى فتحت أبواب البركات، فتسلب البركة بمعصية الله في الأموال، وأيضاً البركة تكون في الأعمار، ولذلك تقرأ عن بعض العلماء رحمة الله عليهم من الصالحين أن أعمارهم قليلة، ولكن العلوم والكتب التي كتبوها لا تستطيع أن تزنها بأعمارهم مما وضع لهم من البركة والخير، فالبركة تكون في الأعمار، انظر إلى يومك، فإن استفتحته بهدي النبي صلى الله عليه وسلم بورك لك فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها) فانظر إلى أي بيت من بيوت المسلمين، إذا كانت المرأة بمجرد ما يأتي السَّحَر تقوم وتصلي ما كتب لها، والرجل يقوم ويصلي ما كتب له، ثم صلى الفجر، ثم أقبل الإنسان على معاشه فأفطر أو أصاب طعامه، ثم خرج إلى وظيفته وإلى عمله من الصباح الباكر أصبح طيب النفس مستجم النفس مرتاح القلب، لما تنظر إليه يتبسم، ونور صلاة الفجر في وجهه، وتراه مطمئن النفس مرتاح البال والخاطر.
لما تنظر إليه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر وإذا به يقضي ما يقضى في اليومين والثلاثة وهذا مجرب، حتى في الكتابة أو في العلم، جربنا ذلك ووجدناه كما قال صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها) وكان ابن عباس يضرب أبناءه الذين ينامون بعد صلاة الفجر، ويقول: [إنها ساعة تقسم فيها الأرزاق، وتكون فيها البرك] فهذا هو الوقت المبارك.
وكما تكون البركة في الزمان، كذلك تكون في المال والولد، فبعض الناس عنده عشرة من الولد، وإذا به يتألم ويتأوه، وكل يوم أحدهم يأتيه بمشكلة وبمعضلة وبفتنة، وبأشياء يشيب منها الرأس والعياذ بالله، حتى يتمنى والعياذ بالله أنهم هلكوا، وهذا موجود نسأل الله السلامة والعافية، وقد يؤذونه بألسنتهم، وقد ينتقصونه فتمحق بركة أبنائه.
وبعض الناس تجد عنده ولداً واحداً، وتجد فيه الصلاح والخير والبركة، وهذا الابن سعادة لأبيه، فلا يقوم أبوه ولا يقعد إلا وهو يذكر ابنه، إما بدعوة صالحة أو بخير، مما وضع الله من البركة في هذا الابن، فالبركات تكون في الأبناء وتكون في الأوقات وتكون في الأعمار، حتى في الزوجات، بعض الزوجات مبارك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن يكن الشؤم ففي المرأة والدابة والبيت) فبعض النساء مبارك، فإذا تزوجها الإنسان فتحت عليه الدنيا، وبسط له في الرزق وبورك له في الوقت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن يكن الشؤم ففي ثلاثة) وقالت أم المؤمنين عائشة: [تزوجوا النساء يأتينكم بالأموال] يعني: ففي النساء من هي مباركة وتكون خيراً على زوجها، وهذا لاشك أنه مقرون بالصلاح والخير، وكلما كانت المرأة صالحة كان الخير منها أكثر.
كذلك أيضاً تكون البركة في وقت الإنسان كما قلنا، ولذلك ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر رمى جمرة العقبة، ونحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة، وأعطى الحلاق رأسه فحلقه، ثم قسم شعر رأسه، ثم وقف للناس يسألونه، ثم نزل وطاف طواف الإفاضة، ثم مر على العباس واستقى من زمزم وشرب صلوات الله وسلامه عليه، ثم صعد إلى منى وصلى الظهر بها، وهذا لا يكون إلا بالبركة.
والآن -الله المستعان- ترمي جمرة العقبة، وتعطي الحلاق رأسك ليحلق وإذا بالساعة عشرة، لم يكن في أيامهم سيارات ولا حافلات، ومع ذلك بورك له صلوات الله وسلامه عليه بأبي هو وأمي، والآن السيارات والحافلات، بمجرد ما تركب الحافلة وتمشي بك قليلاً وإذا به أذن الظهر، وتصل إلا وقد أذن العصر، ثم تذهب وتجدد الوضوء وإذا بالشمس أوشكت أن تغرب، الله المستعان! وهذا من محق البركة.
ولذلك الآن تجد البركة محقت من الأزمنة، فتجد الإنسان يعيش السنة كأنها شهر، والشهر كأنه أسبوع، والأسبوع كأنه يوم، واليوم كأنه ساعة، والساعة كأنها طيف من الخيال، وأصبح الإنسان يخشى من محق البركة، ولذلك إذا نزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان، وضعت البركة في الأرض، حتى إن الشاة تكفي أربعين، وهذه مما يضع الله عز وجل من البركات، والبركات تمحق من الناس على قدر ما يكون بينهم من الظلم، وما يكون بينهم من الإساءة والتقصير في حق الله جل وعلا.
ولذلك لو تسأل كبار السن عن أمور وقعت قبل عشرين أو ثلاثين سنةً كأنها شيء من المعجزات ولا تكاد تصدق، ولكنها حقائق ثابتة فالله عز وجل وضع البركة بسبب ما كان عليه الناس من التراحم والتواصل، فكانت البركة في الأوقات والساعات واللحظات والخيرات، يوم كان الإسلام وكان أهله، ويوم كان الناس وكانت الحياة طيبة، تعيش في كنف أولئك الأخيار، ربما تأتي إلى الرجل الفقير في باديته تجده فقيراً مديوناً لكن يأتيه الضيف في ظلام الليل، حتى أنه لولا الضيف لنام بدون عشاء، فإذا جاءه الضيف ونزل، فتح قلبه وحيّاه وبيّاه، ثم ذهب واستدان الشاة، ولا يمكن أن ينام ضيفه إلا وشاته قد ذبحت، أو إبله قد نحرت، فالله المستعان! محقت البركة بسبب ما فقد الناس من الرحمة، ونسأل الله عز وجل أن يلطف بنا، ويرحمنا برحمته الواسعة، والله تعالى أعلم.