Q إن من أسباب السعادة أن يوفق العبد لقيام الليل، وإني كلما حاولت القيام لا أستطيع رغم بذل الأسباب، فهل من كلمة توجهها إليَّ؟
صلى الله عليه وسلم قيام الليل من أجلّ الطاعات وأشرف القربات التي يرحم الله بها المؤمنين والمؤمنات، وانظر إلى نصوص الكتاب والسنة وما فيها من الدلائل العجيبة التي تدل على فضل هذه العبادة؛ لأن الله أوحى لنبيه وأمره بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]، فكان أول ما أمره أن تنتصب قدمه بين يدي الله في جوف الليل، وقد نامت العيون وهدأت الجفون، وقام العبد بين يدي الله يتلو كتاب الله ويرجو رحمته، فهي ساعات الصالحين، وأمنية المتقين، وشعار عباد الله المفلحين.
ما رزق أحد قيام الليل إلا أفلح ونجح وربحت تجارته في الدنيا والآخرة: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما العبد إذا كان في جوف الليل وقام ليتهجد وترك زوجته وحبه، فقال الله: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟ فيقولون -والله أعلم- يرجو رحمتك ويخشى عذابك، فيقول الله: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي).
قيام الليل خيرٌ كثير، فهو شأن الصالحين وعباد الله المفلحين، ما حبب قيام الليل إلى عبد إلا رزقه الله عز وجل الصلاح والفلاح، وكم من دعوةٍ استجيبت في ظلمات الليل! قال: (يا رسول الله! أيُ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر) جوف الليل الأظلم، إذا نامت العيون، وهدأت الجفون.
ثم إن هذه العبادة تربي في الإنسان الإخلاص لله جل جلاله، فلا أحد يراك ولا يعلم بك إلا الله، وإنما تتقلب بين يديه، وهذه العبادة تعين الإنسان على كثيرٍ من الخير إذا أصبح، فمما يعين على أمور الدنيا إحياء الليل في طاعة الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءته فاطمة -كما في الحديث الصحيح- تسأله خادماً: قال لها: (أولا أدلك على خير من ذلك؟ إذا آويت إلى فراشك، تسبحين الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرينه أربعاً وثلاثين، فذلك خيرٌ لكِ من خادم) فإن هذا الذكر من المجرب أنه إذا تركه الإنسان وجد أثره في رزقه وحاله.
فذكر الله في الليل فيه خير كثير، ثم إن الإنسان إذا أصبح يتلألأ وجهه من نور الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور، والصدقة برهان) فمن أكثر من قيام الليل تلألأ وجهه بنور العبادة {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] أي: سيما نور العبادة، قال بعض السلف: (كان الرجل من الصحابة إذا أصبح كأن وجهه الشمس من نور العبادة).
يتقلب بين يدي الله في جوف الليل، فلا يزال العبد بخير إذا أقام الليل وذكر الله في ليله وفي جوف الليل الأظلم سأل الله في الساعة التي تستجاب فيها الدعوة.
وأما بالنسبة لأعظم الأسباب التي تعين على ذلك فأعظمها وأجلها وأولها: كثرة الدعاء، بأن يرزقك الله عز وجل قيام الليل.
والأمر الثاني: أن تكثر من تلاوة القرآن، فإن القرآن يحبب في الطاعة كلها وبالأخص في قيام الليل.
ثم إن مما يعين على قيام الليل: علم الإنسان بعظيم أجره وجزيل ثوابه، فإن الركعة في جوف الليل الأظلم لها أجر كبير، خاصةً إذا كانت على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأطال قراءة القرآن، وتلذذ بمناجاة الحليم الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: وهذا أحد الصحابة قرأ سورة الكهف، فجاءت سحابةٌ أو غمامة، فقال رسول الله: (اقرأ فلان فيك السكينة تنزلت لقراءة القرآن) وإذا نزلت السكينة على العبد ثبت الله قلبه، ولذلك قلّ أن تجد إنساناً يحافظ على قيام الليل إلا وجدته في الصباح غالباً مأموناً من الفتنة بإذن الله عز وجل.
فاحرص بارك الله فيك على هذا الخير.
أما ما يمنع الإنسان من قيام الليل: قال سفيان الثوري رحمه الله: (أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل ستة أشهر).
فإن عقوق الوالدين وقطيعة الرحم -نسأل الله السلامة والعافية- والغيبة والنميمة وسب الناس واحتقارهم من أعظم الآفات التي تحول بين المهتدي والهداية، وكم من شابٍ مهتدٍ التزم بدين الله، فكان في بداية هدايته عفيف اللسان والجنان والجوارح والأركان، فكان من أكمل الناس إيماناً، ولما غيّر غيّر الله ما في قلبه، فأصبح يتكلم في زيدٍ وعمرو وينتقص زيداً وعمراً، ولربما تكلم في عالمٍ أو داعية أو نحو ذلك، فبلي بالفتنة على قدر ما أصاب من الذنوب.
فليتق الله الإنسان وليتفقد نفسه، فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
نسأل الله العليم أن يرزقنا السداد والرشاد.
والله تعالى أعلم.