اجعل بينك وبين الله صدقات، واجعل هذه الصدقات خفية؛ فإن الله يحب العمل الخفي، ولذلك ذكروا عن زين العابدين -سيد من سادات التابعين وعلمائهم المجتهدين رحمة الله عليه- أنه كان إذا جن عليه الليل حمل على ظهره الطعام إلى بيوت الأرامل والأيتام رحمة الله عليه، وهو إمام في العلم والورع والزهد والصلاح رحمة الله عليه، حتى إنهم لما أرادوا أن يغسلوه ويكفنوه خلعوا ثيابه من أجل أن يغسل، فوجدوا ظهره متشحطاً من أثر الدقيق الذي كان يحمله على ظهره رحمة الله عليه.
فكان يحسن ولكن كان في الخفاء، لم يحسن أمام الناس، ولم يحسن ليقال: إنه كريم.
لا، فإن العبد إذا أحسن أمام الناس على رياء منه وسمعة؛ سمع الله به يوم القيامة، فيأتي العبد بحسناته وأجوره بين يدي الله فيسأله الله: ماذا أردت عبدي؟ فإذاً لابد أن تكون للإنسان صدقات خفية.
نعم تستطيع أن تربح الألف والعشرة الآلاف والعشرين والثلاثين من أي باب خير كان، ولكن الأكمل والأجمل والأعظم أجراً أن تخطو في ظلمات الليل بثيابك، وتغبر قدمك في طاعة الله؛ فإنها خطوات عزيزة عند الله جل جلاله، وتقرع أبواب الأيتام والأرامل؛ حتى تصيب صالح دعائهم، فلعلك في لحظة من اللحظات تطرق فيها باباً تكون أبواب السماء مفتوحة، فيدعى لك بالخير، ويكون لك به حسن العاقبة في دينك ودنياك وآخرتك؛ فإن الله لا يضيع دعوات الأيتام والأرامل.
وكم من محسن كريم عاش الأيتام والأرامل على يديه! ويا لها من نعمة عظيمة إذا مات الإنسان فافتقدت الأرامل أثره! ولذلك لما توفي علي زين العابدين، فقده ثلاثون -وفي رواية ستون- من بيوت الضعفة ممن يطرق عليهم في ظلمات الليل أبوابهم، فعرفوا أنه علي زين العابدين رحمة الله عليه.
اجعل بينك وبين الله صدقات خفية، أما الظاهر فجزاك الله عنه خيراً: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ} [البقرة:271] (خير): بمعنى أخير، أي: أعظم أجراً وأكثر ثواباً لكم، لأن هذا ينمي عن حب الله عز وجل وإرادة وجه الله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} [الإنسان:9 - 11] حتى إن القرآن لم يسكت، بل ذكر أمنيتهم؛ فقال: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10] وما سكت الله عز وجل عن هذا فقال: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11].
سروا الأيتام؛ فسرهم الله عز وجل يوم القيامة، سرهم الله يوم المساءة، وضاعف لهم من الخير والإحسان لما كان منهم لعباده.
واعلم رحمك الله! أن الأيتام والأرامل والضعفاء يزعجون ويقلقون، ولربما تضيق عليك الأرض بسبب سؤالهم، فمن من الأمور التي توسع عليك، شعورك أن الله عز وجل يرحمك برحمته، وأن أي شيء تقدمه ولو كان قليلاً أنه عند الله كثير.
وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، سبحان الله! ما قال: اتقوا النار بركعة ولا بسجدة، وإن كان الركوع والسجود يحفظ بإذن الله من النار، ولذلك لا تمس النار مواضع السجود من بني آدم، وهذه من صفات المؤمنين، لكن لما أراد أن يذكر الفضل قال عليه الصلاة والسلام في حديث عدي في الصحيحين (ما من عبد منكم إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم -يعني من الصالحات- وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم -يعني من السيئات- وينظر تلقاء وجه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) يعني نصف تمرة يمكن يحجب الله عز وجل العبد من النار بها، نصف تمرة.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة طرقت على عائشة رضي الله عنها وكانت معها ابنتان، فاستطعمتها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل بنت تمرة، وأخذت تمرة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى البنتين، فأخذت التمرة وأعطتها لها.
فعجبت عائشة رضي الله عنها من رحمة هذه الأم! فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فذكرت له ما صنعت.
قال: أو تعجبين مما صنعت؟! إن الله قد حرمها على النار بتمرتها تلك).
فالإحسان لا يذهب عند الله عز وجل، ولذلك من جاد ساد وأحيا العالمون له بديع حمد بمدح الفعل متصل كم من أناس ماتوا وهم أحياء في الناس! أحياء بأخبارهم الحميدة ومآثرهم المجيدة، وكم من أناس فرجت بهم كربات، فأصبح المكروبون كلما ذكروهم ترحموا عليهم، وهذا هو الذي يبقى، وهذا الذي يراه الإنسان أمام عينيه شكر نعمة الله بالإحسان، وتفقد ضعفة المسلمين.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا وإياكم من أهل البر والتقوى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.