الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين والمؤمنات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بالآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: الحمد لله الذي جمعنا في هذه الساعة الطيبة المباركة من هذا الشهر المبارك الكريم، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأسأله بمنه وكرمه كما أكرمنا بهذا الاجتماع في هذه الدار، أن يجمعنا في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
بادئ ذي بدء أشكر من كان له الفضل -بعد الله عز وجل- في هذا اللقاء، وشكر الله لكم مسعاكم، وقرن بطيب الجنة ممشاكم؛ حيث أقبلتم على هذه الروضة من رياض العلم، التي نتدارس فيها ما ينبغي على المسلم في تجارته مع الله عز وجل وتجارته مع الناس.
أيها الأحبة في الله: التجارة نعمة من نعم الله عز وجل، وهي مهنة شريفة كريمة، ولو لم يكن في شرفها إلا أن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم عمل بها يوماً من الأيام، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه تاجر في مال خديجة رضي الله عنها وأرضاها.
هذه التجارة تولاها الأخيار على مر القرون والأعصار من صحب النبي الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، تولاها أبو بكر صديق هذه الأمة، وكان تاجراً ونعم التاجر، وكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كـ عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عن الجميع.
وكان عبد الرحمن له في التجارة ثلاثة مواقف عظيمة جليلة: أولها: أنه قدم إلى المدينة -وهو من أهل الهجرتين رضي الله عنه وأرضاه- فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد: يا عبد الرحمن! هذا مالي، أشاطرك هذا المال نصفه لك ونصفه لي، ولي زوجتان انظر إلى أجملهما وأحسنهما أطلقها وتنكحها من بعدي.
فقال عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه: بارك الله لك في مالك، دلني على السوق.
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم همة عالية، ونفوس طاهرة زاكية، فاستغنى عبد الرحمن بالله ففتح الله له أبواب الغنى، أقبل على السوق فتعب ونصب، وكان تاجراً أميناً صادقاً وفياً براً في تجارته ومعاملته؛ ففتح الله له أبواب الرحمة؛ فكان له من الخير ما كان.
الموقف الثاني الذي كان له: أنه كان ممن يجهز جيش النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، فصدق فيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح).
أما الموقف الثالث: فهو أن إحدى أمهات المؤمنين خشعت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت وفاته صلوات الله وسلامه عليه؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (يحفظكن من بعدي الصادقون) فكان عبد الرحمن رضي الله عنه وفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أزواجه من بعده، فكان يتحمل نفقاتهن ويكثر الإحسان إليهن، فيا لها من تجارة عادت عليه بخيري الدنيا والآخرة! التجارة نعمة من الله وشرف للإنسان، وأي شرف أن يأكل من كد يديه وعرق جبينه! الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، حينما سُئل عن أطيب الكسب؟ فقال: (عمل الرجل بيده).
الإسلام دين عمل، ودين جد واجتهاد، ودين سعي وتحصيل، وليس بدين خمول ولا كسل، فشحذ الهمم إلى هذا العمل المبارك، يصون الإنسان به وجهه عن ذل السؤال وشدة الحال، ولذلك كان من أعظم الأمور بلية على العبد أن يتعلق أو تتعلق حوائجه بالناس.
ذكروا عن إبراهيم بن أدهم -عابد من العباد، ورجل من الأخيار الصالحين من سلف هذه الأمة رحمة الله عليهم أجمعين- أنه كان في سفينة فتحركت الرياح وكادت السفينة أن تغرق، فسلم الله ولطف، فلما نجوا من الكربة قال قائلهم: يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة؟ قال: لا والله، إنما الشدة الحاجة إلى الناس.
الشدة حاجة الإنسان إلى الناس فإنه يريق بها ماء وجهه، ويذهب بها كرامته، وينال بها شدة الحياة وقسوتها، فإذا فتح الله على العبد أبواب رحمته، ويسر له من عظيم منته ونعمته، فوجد كسباً طيباً يريق به عرقه لكي يحصل به طيب رزقه؛ فهي نعمة من الله عظيمة.