أما الموقف الثاني من مواقف الآخرة: هي تلك اللحظات التي يُدلّى فيها العبد إلى قبره، ويُوسد في لحده وشقه، وعندها تبدو حقائق الأمور للعبد، فأول ما يرى العبد الملكين حينما يقعدانه في ذلك المضجع.
قف على القبر فانظر إلى ذلك الميت المسجى، ثم انظر إليه إذا تدلى، ثم انظر إليه إذا صف إلى القبلة، فعندها تعلم أن للحياة خبراً وشأناًَ، إن القلوب المؤمنة تعي حقائق هذه المواقف، فبعد تلك الضجعة أهوالٌ لا يعلمها إلا الله ونعيم وسرورٌ ومننٌ من الله تبارك وتعالى لم تخطر للعبد على بال.
إخواني في الله! تهيئوا وتجملوا لهذا اللقاء الأكبر بالصالحات، حتى إذا أُضجع العبد إلى قبره وأوسد في لحده جاءه ذلك العمل الصالح، فرآه فقال: من أنت فوالله لوجهك الذي يأتي بخير؟ فيقول له: أنا عملك الصالح.
نعم، إنها الكلمات الطيبات، من ذكر للرحمن وتلاوة للقرآن، والتعبد إلى الله عز وجل بالطاعات والقربات، هذه الأعمال التي يجد العبد آثارها إذا لقي الله جل وعلا وحيداً فريداً في قبره، موسَداً في لحده، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله كلما تذكروا ضجعات القبر أورثهم ذلك الخوف وأورثهم المسارعة إلى قيام الليل وصيام النهار، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
ثبت في الحديث الصحيح عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا وقف على القبر بكى، وكان إذا ذُكرت له الجنة والنار لم يبك مثل بكائه للقبر، فقالوا له: (تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتذكر القبر وتبكي، قال: أخبرني خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن القبر أول منزل من منازل الآخرة).
إنها كلمات صادقة من نبيٍ كريم فالقبر أول منزلٍ من منازل الآخرة، فتفكّر أخي في تلك الليلة الأولى إذا أضجعت في تلك اللحود وحيداً فريداً بالأعمال والأقوال تذكر أخي تلك الليلة! أول ليلة تمر عليك في القبر تذكرها فإن لها في قلوب المؤمنين وقعاً، إن لها في قلوب الصادقين أثراً، إن لها أثراً يدفع إلى الطاعات ويجعل العبد في جدٍ واجتهاد من المرضاة، تذكر أول ليلة في القبر، وحفز النفس للقاء الله، وتهيأ وتجمل بالعمل الصالح لعلك أن تصيب من رحمة الله ما يكون لك سبب في النجاة من ذلك الهول.
ورد عن المروزي رحمه الله -صاحب الإمام أحمد - أنه قال: أتيت في ليلة من الليالي، فسرت حتى آخر الليل، فلما أردت أن أنام قمت فصليت ركعتين ثم أوترت ونمت، قال رحمه الله: فرأيت في نومي رجلاً يقول: من أنت فقد آذيتني رحمك الله ليلتي؟ لأنه كان نائماً على القبر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه نهى عن الجلوس على القبر)، فقال المروزي لصاحب القبر: من أنت؟! فقال: أنا مقبور تحتك، فقال: حدثني عن الآخرة، فقال له: إنا في دار علم لا عمل عندنا، وأما أنتم ففي دار العمل ولا علم عندكم، والله لو تعلم ما لركعتيك هاتين عند الله؛ لكانت لك خيرٌ من الدنيا وما فيها.
ولو كشف الله لنا عن تلك القبور وما فيها من الأهوال، وما فيها من سعادة أهل السعادة ما فيها من نظرة النعيم لأهل الطاعات والقربات، ما فيها من نفحات رب العالمين، ورحمات ملك يوم الدين؛ لهانت -والله- على العبد الدنيا.
جاء في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالبكاء)، إن الذي يعلم حقائق القبور هو رب العالمين، ممتِّع الصالحين برحماته، ومهين العاصين بعقوبته ونكاله، لذلك إخواني فتلك هي المحطة الثانية التي يراها الإنسان إذا حُط فيها تبينت وتبدت له معالم الآخرة.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد الصالح إذا سُئل من الملكين، فأجاب -بتثبيت الله عز وجل له -فتح له في قبره، ومُد له مد بصره، فيقول: يا رب! أقم الساعة، يا رب! أقم الساعة، يا رب! أقم الساعة)، يقول ذلك حنيناً إلى لقاء الله وشوقاً إلى رحمة الله؛ لأنه علم أن ما وراء هذا القبر أعز وأسمى عند الله عز وجل.