Q كثير من التائبين عندما يعودون إلى الله تبارك وتعالى ما إن يلبث حتى يعود إلى عصيانه لربه تبارك وتعالى, فماذا تنصح هؤلاء الإخوان بارك الله فيكم؟ ثم ذكر أيضاً سؤالاً: ما هي الأسباب المؤدية للهداية؟
صلى الله عليه وسلم إن من أعظم النقم وأشدها على العبد في الدنيا والآخرة مصيبة الدين, تلك المصيبة التي إذا حلت ونزلت فلا يجبر كسرها إلا الله جل جلاله, ولذلك في الدعاء المأثور: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) ومن أعظم المصائب أن يعرض العبد عن الله جل وعلا, فإنه قد يعرض إعراضاً يحرم الله عليه بعده أن يقبل أبداً, ولذلك من أخوف وأخطر ما يكون على العبد بعد أن يذوق حلاوة الإيمان أن يعرض عن الله العظيم الديان, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الانتكاسة, وأن يعيذنا منها وأن يثبتنا وإياكم على الصراط المستقيم إلى لقائه.
ومن أعظم الأسباب التي ينبغي أن يتنبه لها كثير من الإخوان: أنه ينبغي على الإنسان إذا التزم أن يلتزم بصدق, وإذا اهتدى أن يهتدي بحق, وأن يأخذ بالدين كله لا بجزئه, وأن يأخذ بهذا الالتزام كلاً لا بعضه, فإذا جاء لهذا الدين يأخذه كاملاً، فإنه إن أعرض عن أمر من أوامر الله لا يأمن الضلال كما قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [والله لا يبلغني شيء من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره إلا فعلته، إني أخاف إن تركت شيئاً من سنته أن أضل] فهذه من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يتنبه لها.
الحرص على الأخذ بأوامر الشرع كاملة, يأمرك الشرع أن تحفظ جوارحك فعليك أن تحفظها, يأمرك أن تحفظ أركانك فعليك أن تحفظها, يأمرك أن تعطي فتعطي, يأمرك أن تمنع فتمنع, وإذا قال هذا حلال فهو حلال, وهذا حرام فهو حرام, حينما تأخذ بالدين كاملاً يتغلغل إلى سويداء قلبك, وتأتي الساعة التي يصبح هذا الدين أعز عليك من الطعام والشراب, عليك أن تأخذ بالالتزام كاملاً، ولازم ذلك أن تبحث عن أوامر الدين, وكلما جاءك أمر من الله ورسوله تقل: سمعت وأطعت غفرانك ربنا وإليك المصير.
الصحابة رضوان الله عليهم لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم واستجابوا جاءت استجابتهم على أحسن وأصدق، وأبهى وأكمل وأجمل ما تكون عليه الاستجابة, فتحوا قلوبهم لهذا القرآن, وكان الواحد منهم تخرجه آية واحدة من ماله لوجه الله جل جلاله, التزام حق، أخذ بالدين بصدق, والله يقول: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف:170] الدين يريد جهاداً ويريد أخذاً {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] يحتاج إلى عزيمة، يحتاج إلى رجولة, فإن الله لما أثنى على أهل طاعته قال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:37] ما كسرتهم تجارة الدنيا، ولا أهانتهم الدنيا ولكن وضعوها تحت أقدامهم, ووضعوا الدين نصب أعينهم, فمن حمل هم هذا الدين وأخذه كلاً بمجرد ما يأتيه أمر عن الله فيقول: لبيك.
يأتيه النهي عن الله يقول: كففت وانزجرت.
ولو كان شيئاً يهواه في نفسه وفي أهله وولده لا يبالي, إذا فعل ذلك فقد أصاب رحمة الله, فلا يزال يستجيب لأمر تلو أمر حتى يحبه الله محبة يتأذن بهداية لا ضلال بعدها, وقد يتأذن له برحمة لا عذاب بعدها, ولذلك كلما وجدت الشاب الصالح يقبل على هذا الدين بصدق كلما وجدت آثار الإسلام في جوارحه، وفي أركانه، حتى وجهه عندما تراه تراه يتلألأ ويشرق من هذه الطاعة.
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل, الكثير يلتزم ولكن التزام ماذا؟ في الصور؟! في الظواهر؟! في القوالب والقلوب غافلة عن الله جل جلاله؟ الالتزام يحتاج إلى صدق, يحتاج إلى إنابة حقة, فمن التزم للعبة أو هوى أو شهوة أو جلوس مع أصحاب, أو التزم بطريقة فيها فكاهة وتندر وأصبح يجلس مع أصحابه فإذا ضحكوا ولعبوا استأنس، حتى إذا ذهبت الفكاهة واللعابة جاءت السآمة والملل, فأصبح يحن ويئن إلى الجاهلية الأولى، وفي هذا يقول الله جل جلاله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] على حرف، أي: آخر درجة بحيث لا يبقى له إلا شعرة واحدة إما إلى جنة أو إلى نار {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] حينما يأتيه شيء في الإسلام يهواه يقول: هذا هو الإسلام، فتراه يلتزم ويستجيب {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
نسأل الله العظيم أن يعافينا وإياكم من هذا، إن أصابته فتنة، والفتنة إما تكون شبهة أو شهوة, فلذلك الوقفة التي نحتاج أن نقولها: الالتزام يحتاج إلى عمل, كثير من الشباب التزموا ولكن تأتيهم أوامر الله ورسوله فيصرفونها إلى غيرهم, وأضرب أمثلة كثيرة, الشاب تجده على استقامة والتزام ولكن ما إن تأتي فتنة لا يستطيع أن يعف عنها لسانه, ولا يعف عنها جنانه, ولا تعف عنها جوارحه وأركانه, فأين الالتزام؟ الدين فيه ابتلاء وفيه اختبار وفيه تمحيص, وأخبر الله جل وعلا أن من صبر على هذا الالتزام والتمحيص أن الجنة نصب عينيه هداية ورحمة من الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت:69] أي: لوجهنا ومن أجلنا {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} [العنكبوت:69] أي: والله لنهدينهم {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] الذين أخذوا بالدين بصدق.
فالمقصود أن الكثير يلتزم ولكن التزاماً هشاً، حتى إن الرجل إذا جاءته الفتنة في لسانه وجنانه يقول: ما أستطيع أتركها! وتجده يلتزم فينهى عن أمر حرمه الله ورسوله ولا يستطيع أن يتركه, ويقول: ما أستطيع! فأين الالتزام؟! فمثل هذا لا يأمن أن ينتكس, من يلتزم التزاماً هشاً يعبث به الشيطان، وقد يأتي إلى شعبة من شعب قلبه يفضي فيها إلى صميم فؤاده والعياذ بالله, ولذلك قد يقال للإنسان: يا أخي! عف لسانك عن عوام المسلمين, فضلاً عن العلماء والدعاة؛ هذا أمر من أوامر الله أن نعف ألسنتنا, ابحث عمن يصون لسانه عن أذية العلماء اليوم, مع الالتزام والديانة والاستقامة, تقول له: يا أخي! من كمال دينك وخوفك من ربك ورجائك لرحمته أن يكون عندك ورع تخاف به وتخشى به من لقاء الله جل وعلا, حتى كان العلماء يتكلمون في الجرح والتعديل وقلوبهم ترعد من خشية الله جل جلاله, مع أنهم يقولون ذلك غيرة على الدين, يخافون أن شعبة من شعب القلب تذهب وتقول الجرح والتعديل تشفياً وغيظاً, فيكون ذلك ذنباً في عباد الله المؤمنين.
المقصود أننا نحتاج إلى وقفة نعيد فيها النظر في هذا الالتزام, هل الالتزام في الأشكال والصور والمعادن خاوية تأتيها الأوامر وهي في السحيق والهاوية؟ نحتاج إلى وقفة مع هذه القلوب حتى تعرض على رحمة الله علام الغيوب {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] من حب الله ورسوله، يغيروا ما بأنفسهم، من الليلة تجعل في قلبك أن تأخذ بهذا الدين كاملاًَ, إن جاءك أمر تجعله نصب عينيك, وأقسم بالله العظيم إنك لن تعظم لله أوامره ونواهيه, ومن الليلة جرب إذا جعلت في قلبك أن تأخذ بالدين كاملاً، وأن تغار على حدود الله وحرمات الله غيرة كاملة فإن الله سيجعل لك من الحب والود وهيبة في قلوب العباد على قدر ما هبته سبحانه وتعالى.
كان الإمام مالك رحمة الله عليه إمام دار الهجرة إذا جلس السائل بين يديه يرعد من هيبته رحمة الله عليه, كان مهاباً حتى إنه يفتي الفتوى وقد لا يستطيع السامع أن يسمع، ولا يستطيع أن يقول له: أعد عليّ يا إمام؛ من الهيبة التي وضعها الله له في قلوب العباد.
ويقول الإمام محمد بن الحسن: لقد جلست بين يدي الهادي والمهدي والرشيد، والله ما وجدت الهيبة التي وجدتها لما جلست بين يدي مالك.
هذه الهيبة يقول فيها أحد أصحاب الإمام مالك مقالة مشهورة: [ولا نظن ذلك إلا لشيء بين مالك وبين الله].
كان يعظم الله ويهاب الله ويخاف الله, ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما عظموا الدين وهابوه غرس الله في قلوب الأعداء خوفهم ورعبهم, فنسأل الله العظيم أن يرزقنا الالتزام الحق, وأن يجعلنا من أهل الولاية الصادقة التي يحبها ويرضاها, والله تعالى أعلم.
أما أسباب الهداية فنجملها في أمور: أولها وأعظمها: الدعاء, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى) اسأل الله الهدى.
الأمر الثاني: أن تأخذ بالأسباب، ومن أعظمها تلاوة كتاب الله, والوقوف عند عظات الله, تحلل حلاله وتحرم حرامه, وتتبع شرعه وأحكامه ونظامه دون زيادة ولا نقص, دون غلو ولا شطط, ولا إجحاف ولا اعتساف, فإذا رزقك الله عز وجل ذلك تمسكت بالدين ورأيت حلاوة الهداية, فإن الله يقول عن هذا الكتاب العظيم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] الكتاب الذي بين أيديكم يحمله الصغير والكبير، ولكنه عظيم القدر عند الله {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أقوم في العقيدة, أقوم في السلوك, أقوم في الأخلاق, أقوم في الأحكام, حتى مع أهلك وولدك في ساعة عسرك ويسرك, حتى إذا طلقت المرأة يقول: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ما ترك شيئاً إلا جاءت فيه الهداية على أجمل صورها وأبهى حللها, الهداية بكتاب الله.
النقطة الثالثة: الهداية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قراءة المتأمل المتدبر, وقف مع تلك السيرة العطرة النظرة, وتلك المواقف الجميلة التي تذكرك بالإيمان بالله جل جلاله, وتحيي في قلبك معالم التوحيد والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى, اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر من