Q كثير من الإخوة يرغبون أن يتكلم الشيخ عن حياته في طلب العلم؟
صلى الله عليه وسلم باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: أما طلبي للعلم فأسأل الله العظيم أن يجزي الوالد كل خير، وأحمد الله تبارك وتعالى أن هيأه لي وسخره لي، وما كان العبد ليصيب ذلك لولا فضل الله، كان رحمه الله حريصاً على أخذنا إلى مجالسه في الحرم وإحضارنا في دروسه في البيت، وكنت من الصغر أحياناً أنام في حجره في الحرم رحمة الله عليه؛ لأنه كان يدرس بعد الفروض كلها عدا فرض العصر يكون في درسه في البيت.
فلما بلغت الخامسة عشرة أمرني أن أجلس بين يديه وأن أقرأ عليه دروس الحرم فابتدأت معه بسنن الترمذي وتعرفون بداية واحد مثلي بداية ضعيف، يعني: أمام جمع من الناس في داخل الحرم، ولكنه أراد رحمة الله عليه أن يشحذ الهمة وكان يحسن الظن بي كثيراً، وأسأل الله عز وجل ألا يخيب ظنه فيّ، فابتدأت بقرءاة سنن الترمذي ثم انتهيت منه، فابتدأ بالموطأ وختمته عليه، ثم بعد هذا ابتدأت بسنن ابن ماجة، وتوفي رحمه الله ولم يكمله ونسأل الله أن يكتب له أجر إكماله هذا بالنسبة للدرس الأول الذي بعد المغرب.
ثم يأتي طالب ويقرأ عليه درساً في اللغة، ثم طالب يقرأ عليه درساً في الفقه، وكنت أحضر معه، وبعد العشاء قرأت عليه صحيح مسلم حتى ختمه ثم ختمه الختمة الثانية وتوفي في آخرها.
ومن غريب ما يذكر أنه توفي عند باب فضل الموت والدفن في المدينة، وأذكر أنه ذكر في آخر مجالسه حديث فضل الدفن في المدينة وهذا الحديث قد قرأته عليه قرابة أربع مرات في صحيح البخاري، وكذلك في صحيح مسلم ولا أذكر أنه دعا إلا في آخر مجلس من حياته وكان صحيحاً ليس به بأس، فبعد أن ذكر الفضل وذكر أقوال السلف رحمهم الله، قال: وأسأل الله جل وعلا أن لا يحرمنا ذلك فأمن الحاضرون، ولا زلت أذكرها حتى قلت: من تأمينك مثل آمين في الحرم من كثرة الحضور رحمة الله عليه في درسه، فكنت حافظاً لذلك المجلس لأنني أعرف في العادة يمر على هذا الحديث وما دعا.
ثم في الفجر كان يقرأ بعد صلاة الفجر التفسير حتى تطلع الشمس، وأما بعد صلاة الظهر فقد كنت أقرأ عليه صحيح البخاري حتى ختمته، ثم أيضاً ابتدأ قراءة ثانية فتوفي ولم أكملها عليه.
وأما بالنسبة لقراءتي الخاصة عليه، فقرأت عليه في الفقه: قرأت عليه متن الرسالة حتى أكملته، وقرأت عليه في بداية المجتهد من مذاهب العلماء والفقهاء شيئاً كثيراً من مسائلها وكنت أحررها وكان رحمه الله واسع الباع في علم الخلاف، ويذكر الأدلة لكن كان عنده ورع في الترجيح، وأما بالنسبة لعلم الأصول: فقرأت عليه لكنه كان رحمه الله لا يحب كثرة الجدل الموجود في علم الأصول -كما تعرفون أن علم الأصول يقوم على المنطق في كثير من مسائله- فكان إذا دخلت معه في المنطق يقول: قم -يطردني- لأنه كان يرى تحريم المنطق وهذا قول لبعض العلماء وإن كان اختيار بعض المحققين منهم شيخ الإسلام بالتفصيل.
كما أشار إلى ذلك الناظم بقوله: وابن الصلاح والنووي حرما وقال قوم ينبغي أن يعلما والقولة المشهورة الصحيحه جوازه لكامل القريحه ممارس السنة والكتاب ليهتدي به إلى الصواب المقصود: أنا أدلل بهذه الكلمة ما استوعبت معه جانب الأصول من ناحية المنطق والخلافات، وكان هناك بعض المشايخ ممن له قوة باع في المنطق، قرأت عليهم بعض المسائل التي أرجو من الله تعالى أن يكون فيها تعويض لبعضها.
أما بالنسبة للمصطلح: فقرأت عليه بعض المنظومات منها: منظومة البيقونية، وكذلك طلعة الأنوار، وكذلك قرأت عليه في تدريب الراوي جزء منه رحمة الله عليه.
وأما السيرة فكان له درس في رمضان يقرأ فيه البداية والنهاية وكان رحمه الله في التاريخ شيء عجيب، أذكر أن الشيخ: ابن عثيمين يقول لي: والدك يحفظ البداية والنهاية.
قالها عن معرفة رحمة الله عليه، كان يلم ومعرفته بالتاريخ والأنساب عجيبة، وهذا العلم الحقيقة قصرت فيه ولم آخذه، ويعلم الله عز وجل ما كان يمنعني منه إلا خشية أن الإنسان يأتي ويقول: إن هذه القبيلة تنتهي إلى كذا فيتحمل أوزار أنساب أمم هو في عافية عنها.
لكن الحمدلله في الفقه والحديث والعلوم التي أخذتها عليه - إن شاء الله - غناء عن غيرها.
جوانب من طلب العلم: كان رحمه الله قوياً في طلب العلم، وكان لا يقبل كل طالب علم -يعني: لا يحتضن أو يضم كل طالب علم إليه- لا يضم إلا الفذ الصابر، وذلك له أثر لأنه هو بدايتة كانت بهذه الطريقة، كان رحمه الله من المعروف عنه يقول لي العم محل إجماع عندنا في القرابة: أن والدك رحمة الله عليه ما عرفت له صبوة إلى الحرام من الصبا وكان معروفاً لا يعرف ضياع الوقت، وكان وهو ابن تسع عشرة سنة يرتحل إليه في علم رسم القرآن من إتقانه رحمة الله عليه، ونزل عند بعض مشايخه وكان لا يأتي لقرابته إلا بقدر ما يسلم ويؤنسهم ثم ينطلق إلى دروسه.
هذا كشاهد على صبره في طلب العلم وأنه لا يقبل كل أحد، أذكر منه -رحمه الله- أنه يذكر عن بعض مشايخه أنه سهر الوالد سهر في الليل وهو يراجع درسه في القرآن أيام ما كان يحفظ، أظن أنه استظهر القرآن وهو لم يتم الحادية عشرة من عمره، المقصود أنه سهر الليل في مراجعة حزبه ثم لما صلى الفجر ارتاح قليلاً فمر عليه شيخه -تعرفون التعليم في البلاد خاصة في قضية التحفيظ هذه لها طابع خاص وفيه من الضرب والتأديب شيء لا يخطر على البال- فلما نام بعد صلاة الفجر مر عليه شيخه وركضه برجله وقال: له يا مخيتير ما بلغت الساعة التي تنام، ما بلغت من العلم ما يؤهل لك أن تنام مثل هذه الساعة.
يقول: فقمت من ساعتي أراجع حفظي، يعني: من شدة الضبط والتحرير، وكان عنده همة وكان من أهم الأمور التي رأيتها فيه أنه لا يحب ضياع الوقت، يمكن أن يقبل كل شيء إلا ضياع الوقت، يدخل البيت أول ما يستفتح يصلي ما كتب له، ثم -والله يا إخوان- ينقلب على فراشه والكتاب في حجره، آتيه بمشكلة معضلة يلتفت إليّ فقط والكتاب في حجره، ماذا تريد؟ أقول: كذا وكذا، يقول: افعل كذا وكذا ثم يلتفت إلى الكتاب.
همة عجيبة، لما هاجر من البلاد وخرج -رحمة الله عليه - خرج بكتبه وعزت عليه الكتب في شدة البرد وضعها على جراب من جلد، يقول: إنه لما حملها وكثرت تفسخ معه جلد ظهره، ومع ذلك عزت عليه الكتب أن يفرط فيها، فالأولون الحقيقة كان لهم همة.
وذات مرة كأني أعتذر من كثرة المشاغل علي معه رحمة الله عليه ما كنت أفارقه أحمد الله تبارك وتعالى وأشكره، ولو أني الطالب المهمل والتلميذ المقصر كان رحمة الله عليه في آخر حياته لا أفارقه حتى إذا جاء ينام لا أفارقه حتى يرتاح، وأسأل الله أن يتولى عني حمد هذه النعمة، فأنا أحقر في حمدها ومقصر في شكرها، كنت أعتذر أحياناً بالتعب فذات مرة كنت أراجع مسألة فتعبت، قال: سبحان الله! والله يا بني! لقد كنت أوقظ الفتيل لأقرأ المسألة فيمتلأ الدخان في أنفي حتى لا أعي ما أقرأ - من شدة الدخان- يقول: فأطفئ الفتيل ثم أوقده ثم أطفئه ثم أوقده إلى قرابة منتصف الليل حتى أستظهر المسألة، فأنت الآن في مصباح وفي براد وفي كذا وفي كذا يعني: يحقر منه.
وإذا أخذ كتاباً وقرأ نسي الدنيا وما فيها، قصة طريفة تخبرني بها الوالدة: ذات مرة كان يقرأ في كتابه فجيء له بحليب فبرد الحليب فوضع الدفاية الصغيرة حتى يسخن الحليب، ثم جلس يقرأ، طبعاً فار الحليب واشتعل ناراً ودخن في الغرفة وما انتبه له إلا الوالدة من الغرفة الثانية وهو جالس يقرأ في كتابه، كان عنده انصراف عجيب، إذا أقبل إلى العلم أعطاه كله، وإذا أعطى لك المسألة يعطيها عن تحرير، وقل أن يقدم على الشيء إلا وهو يحسنه، أما الشيء الذي لا يحسنه ما يقدم عليه رحمة الله عليه.
أما الجوانب التي يحفزني فيها في طلب العلم فمن أهمها: كان يعتني بجانب الإخلاص ويعلم الله كم له من كلمات، والله إلى اليوم في قلبي كلمات يسيرات لكن كانت تقرع القلب، وكان يحرص أن يكون العلم هذا لوجه الله، إنه لا يراد به إلا ما عند الله عز وجل، وهذا جانب في الحقيقة أحوج ما يكون إليه طالب العلم، وهو بداية النجاح والفلاح والتوفيق في طلب العلم.
الأمر الثاني: من الأمور في طلب العلم، أنه يعتز ويفتخر إذا جئت تسأل ويعطيك الوقت، والله أحياناً يكون مريضاً وأذكر أن بعض الدروس كان يأتيه الطلاب وهو في الحمى رحمة الله عليه ومع ذلك لا يعتذر وينزل ويصبر، حتى أذكر أنه مرض فجئته بالطبيب بعد ذلك، قال الطبيب: كيف أعالجه وهو جالس -وليس متصور- يقول كيف هذا جالس؟ كان عنده صبر وجلد وتحمل من أجل العلم، ومع ذلك لا يعد نفسه شيئاً رحمة الله عليه، أسأل الله عز وجل أن يجزيه عن المسلمين خير الجزاء.
وكان دائماً ينبه على قضية أن العلم مشاع، وأنه لا يحتكر، وأن المقصود به نشره وبذله، وكان يقول: إذا جاء السائل إن كنت نائماً فأيقظوني، وإن كنت بين الأهل فآذنوني ولا تمنعوا السائل عني، ولو كان من أحقر العباد، والله يأتيه الرجل من البادية مرقع الثياب، يقول: أين الشيخ؟ عندي فتوى نقول: عندك فتوى نذهب نوقظه من النوم في الظهيرة وينزل ولا يمل ولا يسخط ويجيب له سؤاله، ويأتي الرجل من علية القوم ورفعة القوم يقول: أريد أن أودعه لأنني مسافر نقول له: نائم لا نستطيع أن نوقظه، كان من يريد العلم أو الفائدة لا يضن به عليه، في الحقيقة حياته سجل.
أما بالنسبة للقراءة العامة في الجامعة فكما هي معلومة عند الجميع.
ولولا إلحاح الإخوان والله ما كنت أريد أن أتكلم بهذا ولكن نسأل الله أن ينفع بها.