Q بعض أهل العلم المعاصرين يقولون بتجديد أصول الفقه الإسلامي، واستدلوا بقول القائل: (هم رجال ونحن رجال فنأخذ من حيث ما أخذوا) فما قولكم في ذلك؟
صلى الله عليه وسلم هذا السؤال قولهم: إن أصول الفقه تحتاج إلى تجديد، أو يقولون: إن الشريعة تحتاج إلى تجديد، لا فرق بين القولين، هذا القول ابن أخت خالة القول الأول، على العموم هي كلمة حق أريد بها باطل؛ فإن الشريعة قديمها جديد وجديدها قديم، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وهذا أمر مسلَّم من البدهيات، فإن الله تعالى يقول: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] رضي بهذه الشريعة التي آمن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا إليها منذ أربعة عشر قرناً، رضيها الله عز وجل لنبيه، ورضيها لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، وكذلك رضيها للأمة إلى يومنا هذا، بل إلى قيام الساعة.
فلو جاء أي شخص يريد أن يغير في مفاهيمها أو يقلب أصولها وموازينها، ولو كانت عبارته منمقة أو مزوقة فقد حاد عن سواء السبيل -نسأل الله السلامة والعافية-.
فلذلك هذه الكلمة كلمة حق أريد بها باطل، فأصول الفقه هي أصول فهم الدليل، وأصول فهم الدليل باقية إلى قيام الساعة، والذي فهم به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نفهم به نحن، وإذا خالف فهمنا فهمهم بمعنى: أنا تركنا موازينهم في الفهم وتركنا موازين السلف الصالح في الفهم فقد ضللنا -والعياذ بالله-، فلذلك إذا كانت هذه مفاهيم خير القرون فهي صاحلة لشر القرون، فقرننا من شر القرون التي قبله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة) كما ثبت في صحيح مسلم.
فإذاً الذي صلح لخير القرون من باب أولى أن يصلح لما هو شر منه، هذا الأصل الأول.
الأمر الثاني: قولهم: (هم رجال ونحن رجال) نعم هم رجال ونحن رجال، لكن شتان ما بين رجال ورجال، شتان ما بين رجال شهد التنزيل أنهم رجال ورجال هم أشباه الرجال، شتان ما بين رجال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بلسانهم فعايشوا أحوال الكتاب، وعرفوا ناسخه من منسوخه، وحلاله من حرامه، وواجبه وحدوده، عرفوا كل صغير فيه وكبير، ففقهوا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شتان ما بين هؤلاء وما بين من جاء من بعدهم من الخلوف، ووالله لو جئت تزن الواحد منهم بهذه الأمة قد يكون راجحاً لهم، فأين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن بعدهم؟!! فالمقصود: أن هذه كلمة حق أريد بها باطل، وأما قول الإنسان: نحن نأخذ من حيث ما أخذوا.
فهذا ضلال، فإن الله تعالى أمرنا بالرجوع إلى العلماء فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، ولو كان كل شخص يذهب إلى الكتاب والسنة فما فائدة العالِم، ولو كان كل شخص يفهم الكتاب والسنة فما فائدة أهل العلم، والله تعالى يقول: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ولم يقل كلهم، وإنما قال منهم قال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ} [النساء:162] {بِاللَّهِ} [النساء:162] وهم الذين يفقهون عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذي ينبغي الرجوع إليهم والفهم عنهم وأخذ السنة عنهم، ومن قال: هم رجال ونحن رجال.
فقد ضل سواء السبيل، ونقص من مكانة سلف هذه الأمة، والغالب أن لا يقول ذلك إلا إنسان مفتون، أو من عنده فتنة يريد الدعوة إليها وترويجها، فالله الله في سلف الأمة، والله الله في أولئك العلماء الأفاضل الذين أبقى الله علومهم وبارك في أفهامهم، ولو لم يكن من الدليل على إخلاصهم إلا بقاء علومهم لكفى في ذلك دليلاً.
فأوصي إخواني طلاب العلم، بل أوصي كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتأدب مع سلف الأمة، وأن يكون ورعاً فيما يقوله تجاه سلف الأمة، فمن أجلهم وأكرمهم فإنه عبد تقي؛ لأن إجلالهم إجلال لدين الله، وإكرامهم إكرام لدين الله، وانتقاصهم ثلمةٌ في الإسلام -والعياذ بالله-.
وقول القائل: هم رجال ونحن رجال.
هذه كلمة حق أريد بها باطل، فإن الكلام قد يكون حقاً لكن فيه سوء أدب، وفيه خروج عن الهدي، والهدي الكامل الذي ينبغي للمؤمن أن يلتزمه، ولذلك لو قال قائل: الله رب القردة والحمير والخنازير، كلمته صحيحة ولكن فيها نوع سوء أدب، فلو قال: رب الخلق.
لكان أكمل أدباً، وكان أرعى حرمةً لله عز وجل، فليس كل كلام ظاهره أنه مزوق أنه يقبل، فالإنسان يرجع إلى سلف الأمة ويرتبط حاضر الأمة بماضيها، هذا الباب الذي فتح الآن من بعض المتفيهقين الذي يقولون -سامحهم الله وهدانا وإياهم إلى سواء السبيل- يقولون: نعيد النظر، ونريد تجديد الشريعة ومسايرتها للعصر، هذا مما لا ينبغي، ومقالته هذه قد تؤدي -والعياذ بالله- إلى هدم الشريعة ونقضها، لكن قد يكون مقصود البعض مقصوداً حسناً في جانب نستثنيه وهو أن يقال: إننا نريد من يترجم فهم السلف للخلف بأسلوب معاصر، فهذا كلام طيب، وكلام مقبول بمعنى: أن تأخذ الكتب التي عن سلف الأمة وتأتي بأسلوب صحيح سوي يناسب الأفهام، فهذا كلام صحيح، وهو واجب الدعاة وواجب العلماء، والحمد لله هم قائمون به في فتاويهم وتعليمهم ودروسهم.
أما لو قيل: نريد أن نغير الفتاوى لتغير الزمان، أو نريد أن نجدد الشريعة، فالله أعلم أنها فتنة وقانا الله وإياكم شرها، فلا خير في إنسان يعرض عن خيار هذه الأمة.
ولذلك أقول: ينبغي أن نبدأ من حيث انتهوا ولا نكرر ما فعلوا؛ لأنهم سلف الأمة المختار لها -نسأل الله عز وجل أن يرزقنا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى حبهم، وأن يرزقنا سبيلهم، وأن يرزقنا الحشر في زمرتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.
أما أصحاب المذاهب فالناس فيهم على ثلاث طوائف: طائفة تقول: هؤلاء رجال ونحن رجال كأصحابنا من قبل، وطائفة ثانية تقول: هؤلاء المعصومون، وهؤلاء الذين لا يمكن أن يخرج الحق عنهم، وهؤلاء هؤلاء حتى بلغوا بهم مقاماً قد يصل إلى مقام الأنبياء، وأقوام وسط نزلوا أهل العلم منزلتهم، وأجلوا حملة الدين إجلالهم، ووقروا حملة الشرع توقيرهم، فحفظوا مكانتهم، ونظروا في قولهم، فما وافق الحق قبلوه، وما خالف الحق اعتذروا لصاحبه، وتأدبوا في الاعتذار عنه؛ لأن هؤلاء الذين اختلفوا من سلف الأمة كان هدفهم الحق وكانوا يريدون وجه الله ويريدون الدلالة على الصواب في دين الله لا أقل ولا أكثر، ما كانت عندهم شهوات وأهواء وأغراض، فلذلك ينبغي للإنسان أن يسلك السبيل القيم ديناً قيماً لا اعوجاج فيه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
والمتون الفقهية التي يقرأ الناس فيها على ثلاث طوائف: طائفة قالت: ما نقرأها، هذه أقوال قوم (هم رجال ونحن رجال) وهم كمن قبلهم.
وطائفة قالت: هذه الكتب لا نجاوزها ولو كان النص بخلافها -والعياذ بالله-.
وطائفة قالت: هذه كتب على أعيننا ورءوسنا ما وافقت كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن خالفت فإننا نظن بأهلها خيراً، ولكن الحق أحب إلينا منهم فيلتزموا صواب ما دل عليه الكتاب والسنة من الصواب، ولا يحيدون عن ذلك قيد شعرة طلباً لمرضاة رب الأرباب فهؤلاء هم السعداء، وانظر في سلف الأمة لن تجد عالماً إلا وجدته قد التزم مذهباً بدليله.
انظر إلى علماء الإسلام وفقهائه الأعلام تجدهم قد قرءوا المذاهب بالدليل، ما قرءوها مجردةً عن الدليل ولا تعصبوا، انظر إلى الحافظ ابن عبد البر الإمام الجليل كان على مذهب المالكية رحمة الله عليه ثم صار مجتهداً، ومع ذلك وافق الإمام مالك فيما وافقه وخالف الإمام مالك فيما خالفه، واعتذر عند مخالفته، ومع ذلك ينتسب إلى مذهبه، ويناصر مذهبه إن وافق الحق، ويرده إذا خالف الحق.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في فتاويه: قال أصحابنا، وأجاب أصحابنا، وهو مذهب أصحابنا، من هم أصحابه؟ أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، وبه يقول إمامنا، واحتج إمامنا بكذا وكذا، مراده الإمام أحمد رحمه الله، ولكن قرأ فقهه بالدليل، ثم وافق الإمام أحمد وخالف الإمام أحمد فما نقص ذلك من قدر الإمام أحمد، ولا نقص كذلك من فضل شيخ الإسلام رحمه الله وقدره، وهكذا علماء الإسلام ما تجد أحد إلا وقد قرأ مذهباً لكن بدليله، هذا هو السبيل البين الذي نسأل الله عز وجل أن يقيمنا وإياكم على صراطه، والله تعالى أعلم.