ومن سمية -التي قدمتُ لسبق شهادتها- إلى الصديقة بنت الصديق، إلى المبرأة من فوق سبع سماوات، إلى امرأة سكن الإيمان قلبها، ونزل الإيمان واليقين بفؤادها؛ عائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صديقة بنت صديق، لست أدري ما الذي أختار لكِ من طهارتها وعفتها، أأختار لكِ إيماناً لا شك معه ولا مرية؟ أأختار لكِ جناناً مليئاً بمحبة الله؟ أأختار لكِ علماً وفضلاً وأدباً وخلقاً؟ إنها النجم الزاهر، والروض الناضر الذي يستهوي من رآه، ويستهوي من سمع أخباره، إنها عائشة التي تربت في بيت الصديق، وفي بيت النبوة مع خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين.
مع عائشة التي رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وزوجاً محبوباً، أكرمته وأحبته فلما خُيرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت آية التخيير لنسائه، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إني مخيركِ في أمرٍ فلا تعجلي فيه حتى تراجعين فيه أباك وأمك) فما إن خيرها بين الدار الآخرة وبين أن يمتعها ويسرحها سراحاً جميلاً، حتى أبت وأصرت إلا البقاء معه صلى الله عليه وسلم، بل إنها أجابت مباشرة بأنها تختار الله ورسوله والدار الآخرة، وعجلت أن تخير والديها، فهو الأمر الذي لا يحتاج إلى خيار غير خيارٍ واحد، وهو الذي أحبته وارتضته، وهو اختيار رحمة الله ومحبته، عاشت هذه الطيبة الطاهرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً لكل زوجة وفية لزوجها، أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، أحبها لديانتها ولطهارتها، ولصلاحها وعفتها رضي الله عنها وأرضاها.
وعاشت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيشة الفقر؛ فقر الظاهر وغنى الجواهر، عاشت فقيرة في الظاهر ولكنها غنية بالله عز وجل، ثلاثة أشهر وما يوقد في بيتها نار، فرضيت بهذه العيشة لعلمها بأن رضوان الله عز وجل فيها، ماذا أختار لكِ من هذه الصالحة الطيبة الطاهرة المباركة الصديقة بنت الصديق التي عاشرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينٍ تراقب حركاته وسكناته، وسمعٍ يصغي لكل لفظ من حديثه، فكانت وعاءً من أوعية السنة، وحافظة من حفاظ الصحابة، وعت أكثر من ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنضر الله ذلك الوجه، ونضر الله -عز وجل- تلك الصورة التي حفظت للأمة دينها، وما اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من هديه داخل بيته إلا ورجعوا إلى الصديقة يختارونها حكماً بينهم، قال أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه: [ما اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرٍ ورجعوا إلى عائشة إلا وجدوا عندها خبراً وأثراً].
إنها عائشة علماً وأدباً وفضلاً ونبلاً، رسمت منهجاً للصالحات في المثابرة على محبة رب البريات بطلب العلم، فهي مثال لكل زوجة عالم، ومثال لكل زوجة داعية أن تتقي الله عز وجل في زوجها، رسمت المنهج الصالح بمعاشرة النبي الكريم ولخلفاء الأنبياء من العلماء العالمين، والدعاة المخلصين بصبرها على العيشة اليسيرة، وعفتها عن الغنى الذي يرديها ويهلكها، رضيت فأرضاها الله عز وجل برضاها، ونحن اليوم نعيش مع عائشة اليوم، نعيش مع تلك النماذج الحية من نساء مؤمنات صالحات طاهرات ذكرن عائشة في علمها وأدبها، فجعلنها قدوة بها يحتذى، وأمة بها يُقتدى.
نعيش اليوم مع تلك النماذج الطيبة الطاهرة، مع النساء الحافظات لكتاب الله، اللاتي خرجن إلى بيوت الله لحفظ آيات الله، نعيش مع عائشة اليوم وهي ساهرة في طلب العلم بعين ترجو رحمة الله، وهي تخط بيدٍ ترجو الفوز بالكرامة من الله، وهي تصغي بسمعٍ يطلب رضوان الله، نعيش مع عائشة اليوم تلك الداعية المخلصة التي نذرت نفسها للدعوة إلى الله، مع عائشة اليوم التي جرت محبة الدعوة في عروقها.
إنها عائشة الصالحة عائشة الفاضلة عائشة التي صبرت على البلاء، فأوذيت في أقدس شيء -بعد الإيمان- وهو عرضها فمست كرامتها، ولكن لتنال من الله رضواناً، وصفحاً من الرحمن وبراً وإحساناً، وقفت عائشة رضي الله عنها أيام محنة الإفك؛ ذلك الموقف العصيب الرهيب، ولكنها كانت أكبر من تلك المقالة حينما تعلقت بالله ولاذت به، واستعاذت بالله فكانت معه، قيل عنها ما قيل فبرأها الله عز وجل، وغار عليها إذ نزل آيات التنزيل، وما كانت تظن أن ينزل الله عز وجل فيها قرآناً إلى يوم الدين، فكل امرأة اليوم تؤمن بربها، فتؤذى في عرضها، تترسم نهج هذه الصالحة فتصبر لوجه الله، وتحتسب الأذية عند الله، وترجو في مصابها وبلائها المثوبة من الله.
عائشة اليوم تؤذى وتتهم في عرضها وعفتها ولكنها ثابتة لوجه الله، صادقة إيماناً بالله، تصبر على تلك المكائد، وتصبر على ما يروجه كل معاند وحاسد، تتمثل هدي تلك المرأة الصالحة، وتترسم خطى تلك الصديقة الفاضلة.
عائشة رضي الله عنها التي كانت مثالاً في الزكاة، ومثالاً في الجود والسخاء، فتحت لها أموال الدنيا فما التفتت إلى تلك الأموال، بعث إليها عبد الله بن الزبير رضي الله عنها وعنه مائة ألفٍ فجاءتها وهي صائمة لله، فما إن وقعت في يدها حتى تذكرت جنان الخلد التي ترجوها عند ربها؛ فبذلت تلك المائة في طاعة الله ومحبته، فرقت تلك المائة حتى أمسى المساء وما عندها منها شيء، فطلبت فطورها وطلبت شيئاً ترد به جوعها وظمأها، فإذا به لم يبق من المائة ألف شيء تطعم به طعاماً، ولكنها أبقت رضوان الله، والرجاء فيما عند الله، صامت لوجه الله عز وجل ذلك اليوم، وصامت مع صيام الجسد عن شهوة الدنيا وفتنتها وزهرتها، فبذلت ذلك المال كله لوجه الله حتى نسيت طعام فطورها! يا لله من قلب يؤمن بالله! ويا لله من فؤاد يرجو رحمة الله! ويا لله من صديقة تلتمس رضوان الله! قالت لها أم ذر: [هلا تركت من المائة ألف ما تفطرين به؟ فقالت: لا تلوميني، هلا ذكرتني؟] ذهلت عن الدنيا حينما تذكرت رحمة الله، ورجت الفوز بما عند الله.
إنها ذهبت ومضت وخلفت لنساء المؤمنين ذلك المثال الصادق لبذل المال لوجه الله واحتساب الأجر عند الله، ذهبت عائشة إلى رحمة الله ورضوانه، ولكنها رسمت المنهج لـ عائشة اليوم حينما اقتدت بها وائتست، فكم نسمع من قصص تذكر بها! كم نسمع من قصص عن تلك الصالحة! وعن تلك المؤمنة الموقنة التي جددت عائشة الأمس رضي الله عن تلك وعن هذه رضواناً لا سخط بعده.
امرأة من نساء المؤمنين في العصر الحاضر كانت بنت ثري من الأثرياء، شاء الله عز وجل أن يقبض روحه فخلف الأموال الكثيرة، فجاءها زوجها مساء ذلك اليوم بتلك الورقة التي فيها خمسة ملايين من الريالات، فلما أخبرها الخبر وقال لها: هذا قسمك من ميراث أبيك.
قالت: كم هو؟ قال: كذا وكذا.
قالت: والله لا أطعم منه شيئاً وأيتام الأفغان يعانون الجوع، وأرامله يقاسون البرد والعناء.
وقالت: والله لا يمسي هذا المال وعندي منه شيء، فخرجت منه ترجو رضوان الله، فيا لله من مؤمنة صابرة! ويا لله من مؤمنة صادقة! إنها قلوب الصادقات التي آمنت برب البريات، فنسيت عند الإيمان به حظوظ الدنيا وزهرتها، إنها أمثلة ونماذج حية بنقل الثقات عن تلك الصالحات اللاتي يُذكِّرن بـ عائشة الأمس رضي الله عن الجميع وأرضاهن.