فإن الناس مع القرآن على ثلاث مراتب: منهم سابقٌ بالخيرات، ومنهم مقتصد، ومنهم ظالم لنفسه، ثلاث مراتب إذا سمعت كتاب الله، أو قرأت كتاب الله، فإما أن تكون من السابقين، وإما أن تكون من الظالمين، وإما أن تكون من المقتصدين، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من السابقين.
أن تقف مع كل آية، فإن وجدتها لك حمدت الله، وإن وجدتها عليك ففكر علّ الله عز وجل أن يعينك للعمل بها، وتطبيقها وتحقيقها، فإن كانت ذنوباً بينك وبين الله، فاستح من الله وقد بلغتك حجة الله، فاستدم لها الاستغفار، والتزم لها التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وإن كانت حقاً واجباً فأد هذا الحق لمن أمرك الله بأدائه إليه.
فإن الإنسان إذا هيأ نفسه للعمل بالقرآن وفقه الله عز وجل، وكان الصحابة رضوان الله عليهم، إذا نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا تلك الآية عملوا بها، رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، فكانوا يتبعون السماع بالعمل، وإذا أردت أن تعرف حب الله لك، وحبك للقرآن فانظر إلى تأثرك بعد سماعك كلام الله عز وجل.
إن خرجت من المسجد أو من الموعظة، أو بعد النصيحة، وأنت تشتاق لعمل ما يأمرك الله به، وترك ما حرم الله عز وجل عليك فاعلم أن الله يحبك، وأنه يهيئك لكي تكون من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وما أنصف عبد نفسه من القرآن، إلا تكفل الله له بحسن الختام.
قال بعض العلماء: سمعت بعض أهل العلم يقول: ما حفظ عبدٌ كتاب الله وعمل به، إلا ضمن الله له حسن الخاتمة، وأذكر أحد العلماء الذين توفوا قريباً من أهل القرآن، الذي أمضوا ليلهم ونهارهم في حب القرآن، وتعليم القرآن وتدريسه، جاءه رجل من بلدٍ بعيد فقال له: إني أريد أن أقرأ عليك القرآن، قال: إن عندي طلاباً كثيرين، قال: يا شيخ أقبلت عليك من بلد كذا وكذا فأعطني من وقتك، فأعطاه وقتاً عزيزاً عليه في ليله، فشاء الله عز وجل أن يستفتح ذلك الطالب كتاب الله عز وجل، وما زال يقرأه حتى بلغ قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] قال: فخشع الشيخ وسقط مغمىً عليه، فكانت خاتمته عند هذه الآية الكريمة.
فنسأل الله حسن الختام.
والقصص في هذا كثيرة، فإن أهل القرآن الذين يحبون كلام الله عز وجل، ليس كثيراً عليهم هذا، وهذا الشيخ الفاضل الذي توفي عند هذه الآية الكريمة، كان يقرأ عليه أحد الأقارب يقول: فرأيته بعد وفاته في المنام فقلت: يا شيخ ما فعل الله بك؟ قال: فغضب عليّ واحمر وجهه، قال: ما تظن الله يفعل بأهل القرآن! هل تظن الله سيعذبني وأنا من أهل القرآن، يفتخر ويعتز بنعمة الله تبارك وتعالى عليه.
فنسأل الله عز وجل أن يسكن قلوبنا وقلوبكم حب القرآن، وأن يجعل حياتنا وحياتكم مع القرآن.
إذا قرأت القرآن واستمتعت إلى آيات القرآن وسألت نفسك عن هذه الآيات.
فالقرآن على ضربين: القسم الأول: ضرب منه الأوامر والنواهي، تفعل ما أمرك الله، وتترك ما حرم الله عليك.
وأما القسم الثاني: فهو العظة والعبرة التي جعلها الله عز وجل في قصص الماضين، ومآل العباد إلى الله رب العالمين، فما كان من العظات وقفت أمامه، فإن استطعت البكاء فذلك من السناء والبهاء، وإن لم تستطعه فتباك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى البكاء عند تلاوة القرآن وعند سماع كلام الرحمن، فالعظات ينبغي للإنسان أن يعيش معها وأن يحس أنها تخاطبه، وأنه هو المعني بها.
ولذلك قال بعض العلماء: إذا قرأت آيةً فيها ذكر الجنة فعد نفسك كأنك من أهلها، حتى تشتاق إلى بلوغها، وإذا ذكرت آيةً فيها ذكر النار، فعد نفسك كأنك من أهلها، وكان الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعون لهم بإحسان، إذا قرءوا القرآن، أهانوا أنفسهم عند تلاوة القرآن، قال بعض السلف: والله ما عرضت نفسي على كلام الله إلا اتهمتها بالنفاق.
وقال الثاني: ما عرضت نفسي -قولي وعملي- على كتاب الله إلا وعددتها من الراسخين في النفاق.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [ما زال ينزل في سورة براءة ومنهم ومنهم حتى خشينا على أنفسنا أن نذكر] فينبغي للإنسان إذا تلا كتاب الله أن يعيش مع كلام الله عز وجل، حتى تكمل موعظته، وتكمل عظته، ونسأل الله العظيم أن يبلغنا وإياكم ذلك المبلغ.