Q كان العلماء وطلاب العلم الأولون يتنقلون في البلدان لطلب العلم وتعليمه، والآن ولله الحمد المواصلات والتنقلات أسهل بكثير من ذي قبل، ومن نعم الله أن العلماء أمثالكم يتنقلون ليعلموا الناس فهل من كلمة مناسبة في الرحلة لطلب العلم؟
صلى الله عليه وسلم الله المستعان، ما أنا إلا طالب من طلاب العلم، وأسأل الله العظيم ألا يغرني بما تقول، وأن يجعلنا خيراً مما تظنون بنا، وأما ما ذكرته من الرحلة في طلب العلم، فإن الرحلة في طلب العلم لا تكون إلا من عبدٍ يريد الله والدار الآخرة، فمن خرج من بيته لله وفي الله وابتغاء مرضاة الله، وهو يحس أن عليه مسئولية أن يبقى مع هذا العلم، وأن يلم به فقد طاب وطاب ممشاه، وتبوأ من الجنة منزلاً، ومن خرج من بيته يريد هذا العلم، ويريد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يجلس بين يدي العالم فقد تشبه بالسلف الصالح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم اغبرت أقدامهم مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الهجرة الأخيرة وهي هجرة الوفود؛ لأن الهجرة تنقسم إلى أنواع ومنها هجرة الوفود، فهجرة الوفود: هي التي جاء الناس فيها أفواجاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:2 - 3] فهاجروا إلى رسول الله ليتعلموا، فإذا وفق الله طالب العلم للهجرة فقد تشبه بالصحابة رضوان الله عليهم، وأرى أن على طالب العلم أن يضحي من أجل هذه الهجرة، إذا كنت لا تستطيع أن تمضي أشهراً فهاجر أسابيع مثلاً في الإجازة، بدلاً من أن يذهب الوقت سدى فسافر إلى المدن التي فيها علماء أجلاء، وتأخذ عنهم العلم، وتضبط على أيديهم العلم، وتحتسب عند الله غربتك، فإن الغربة إذا كانت لله عظم أجرها، وثقل في الميزان ثوابها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
لا إله إلا الله! والله إني لأعجب أن أرى بعض السائقين يسافرون بعض الأحيان مرتين ينتقلون من موضع إلى آخر ويرجعون خلال اليوم، ويقطعون المسافات الشاسعة لأمرٍ: وهو أن يطلبوا الكسب الحلال الطيب في سفرهم بهذا الكد والتعب، ويريدون به المال الحلال عسى الله أن يبارك لهم مما يكون من رزقٍ حلال، فتعجب ألا ترى من سفرهم وغربتهم لا يسأمون ولا يملون ويحسون بالنزهة والراحة فكيف بطلاب العلم، كيف بمن يتاجر مع الله وفي الله، نسأل الله العظيم أن يرزقنا ذلك.
الله أكبر! إذا غابت عليك شمس ذلك اليوم وقد غبرت قدمك مهاجراً وطالباً للعلم.
الله أكبر! إذا غابت عليك شمس ذلك اليوم من أوله إلى آخره وأنت غريب عن أهلك وولدك لطلب العلم، يكتب لك ذلك اليوم كاملاً في صحيفة عملك، وأنت مغترب لله وفي الله، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا صدق العزيمة، وأن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، وعلى طالب العلم إذا تغرب ألا يشكو السآمة والملل، فإن مما يذهب الأجر في الطاعة الشكوى، لا تشتك أبداً، وإن لم تكن ذا همة صادقة، كان الوالد إذا جئت وأنا أشتكي من شيء، يقول: هذا عيبٌ عليك، فأنت في خيرٌ كثير، مثلك يتحدث عن نعمة الله ولا يشتكي، لأن هذا من الضعف والخور، وإذا كان الإنسان في طلب العلم فينبغي أن يكون قوياً جلداً صابراً حتى يكون ذلك أكمل في ميزانه قال موسى بن عمران: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60] ما معناها؟ معناها إلى الأبد {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] أبد الأبد، فقال: لا أبرح لا أستقر ولا يمكن أن يهنأ لي عيش حتى أدرك هذا العالم الذي أوحى الله إليه أنه بمجمع البحرين من هو أعلم منك، فعظمت همة موسى بن عمران إلى لقاء الخضر وسؤاله والاستفادة من علمه فقال: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60] هذه هي الهمة الصادقة في أن يغبر الإنسان قدمه في طلب العلم، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.