الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من التقوى أن يكون الإنسان متصلاً بالله سبحانه وتعالى، مبتغياً رضاه، داعياً إلى الطاعة والعبودية، مبتعداً عن كل ما يسخط الله سبحانه وتعالى حتى يمن الله جل وعلا عليه بطمأنينة قلبه، وسكينة نفسه، وانشراح صدره، وهدوء باله، وبلوغ أمانيه ومآربه في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
ومن السعادة ما هو متعلق بتفريج الهموم، وتنفيس الكروب، وما هو متعلق بدفع ما يقضي الله عز وجل من أمور الحياة من مصائب أو متاعب، والمؤمن في هذا متميز بأن عنده من إيمانه ويقينه بقضاء الله وقدره، ورضاه بما يكتبه الله سبحانه وتعالى عليه؛ ما يجعل المصائب تتحول عنده بإذن الله عز وجل إلى أمور يحمد الله عز وجل عليها، ويحتسب أجرها عند الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن)، المؤمن المتعلق بالله لا تكون عنده هذه العوارض أمراً مغيراً بصلته بالله، أو أمراً يجعله يعترض على قضاء الله وقدره، أو على ما قسمه الله عز وجل له من رزقه، بل يسعد بذلك ويطمئن به، ويرد الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ويحمد الله على قضائه وقدره، ويضاعف له الأجر والمثوبة.
والأحاديث في ذلك كثيرة لمن فقد بصره، أو فقد ولده ثم صبر واحتسب ورضي وحمد، فإن له من الأجر عند الله عز وجل ما الله سبحانه وتعالى به عليم.
فهكذا نجد السعادة الإيمانية تدفع العوارض الدنيوية التي يقضيها الله عز وجل، فتنقلب بإذن الله إلى مزيدٍ من ترسيخ الأقدام على طريق الإسلام، وإلى مزيدٍ من ترسيخ اليقين والإيمان في القلوب، وإلى مزيدٍ من الثقة بوعد الله سبحانه وتعالى كما كان من شأن الرسل والأنبياء، وكما قال الله عز وجل في شأن نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40].
عندما تحل بك المصيبة تجد من برد اليقين، ومن رضاك بقضاء الله وقدره، ومن ثقتك بوعد الله عز وجل، ومن احتسابك الأجر؛ ما يبدد أثر هذه المصائب وما يرفع همومها وغمومها، وما يجعلك بإذن الله عز وجل تنطلق إلى مرضاة الله عز وجل بعزمٍ أقوى وأشد، وبهمة أعلى وأرفع، وهذا لا يكون لأحدٍ إلا للمؤمن.
ثم انظر إلى السعادة حتى آخر لحظةٍ من لحظات الحياة، عندما يأتي الموت الذي تكرهه النفوس بطبيعتها وتنفر منه، ومع ذلك يأتيك من أثر الإيمان ما أنت في أشد الحاجة إليه، وما أنت في أعظم لحظات السعادة التي يحزن فيها الآخرون عليك وأنت تنظر تثبيت الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، هذا التثبيت هو تلقين الحجة وما يفتحه الله عز وجل لك من أبواب جنانه، فإذا بك ترى أهل الإيمان وأهل الطاعة قد أشرقت أسارير وجوههم عند الاحتضار، وقد رنت أبصارهم إلى ما وراء الحجب والأستار مما جعله الله عز وجل لهم من النعيم في الجنان، وإذا بك ترى ذلك الصحابي الذي يندق الرمح في صدره وينفذ من ظهره، فإذا به يبتسم ويقول: (الله أكبر فزت ورب الكعبة!) انظر إلى السعادة التي يستأنف بها العبد المؤمن الحياة الحقة بعد الحياة الدنيوية، وانظر إلى السعادة التي يراها المؤمن لأنه يرى فضل الله عز وجل ينتظره، ويحسن الظن بربه وخالقه ومولاه سبحانه وتعالى، وانظر في مقابل ذلك إلى أهل الشقاء والكفر والمعصية كيف تظلم وجوههم، وتتلعثم ألسنتهم، وكيف يعظم خوفهم وهلعهم في تلك اللحظات؛ نسأل الله عز وجل أن يثبتنا بالقول الثابت، وأن يهون علينا سكرات الموت.
فانظر إلى سعادة الإيمان كيف تنفذ حتى إلى هذه اللحظات الحرجة، وانظر إلى ما وراء ذلك من وعد الله بنعيمه المقيم بالأجر والثواب العميم! {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فرحين بما آتاهم الله من فضله} [آل عمران:169]، شهادةٌ قرآنية بحياة نعيم أبدية عند الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] هذه أعطيات سعادة الإيمان، هذه سعادة الحياة الدنيا، وسعادة مفارقتها، وسعادة ما بعدها في الحياة الأخرى، قد حبانا الله عز وجل إياها بنعمة الإسلام، وأكرمنا بها بنعمة الإيمان، وبسط لنا طريقها وأنارها لنا بالقرآن والسنة، وقد وجدنا لذتها، وجربناها فيما يفتح الله عز وجل به علينا من الطاعة، وقد كان لنا فيها موسم عظيم في رمضان فلم نحرم أنفسنا من هذه السعادة، ولم نشق أنفسنا بالبحث عن أمور السعادة في غير بابها.
تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس كيف تسلك طريقاً لا يوصل إلى الغاية، والطريق قد نصبها الله عز وجل، ودعا إليها رسوله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، وظهرت لنا نتائجه وثماره، فالله الله في طاعة الله، والله الله في الإخلاص وصدق الإيمان بالله، والله الله في عظمة التوكل والثقة بالله، والله الله في الطاعات والقربات والإقبال على الخيرات، والمنافسة والمسارعة إلى الطاعات؛ حتى نجد أثر ذلك سعادة في قلوبنا، وانشراح صدرونا، وسكينة نفوسنا، وحتى نجد بركة في رزقنا، وحتى نجده إن شاء الله نجابة وذكاءً وبراً في أبنائنا، وحتى نجده تيسيراً وتسهيلاً وتوفيقاً في أعمالنا: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده فهذا خبر الله عز وجل ساقه إلينا، وجعله بين أيدينا، فينبغي ألا نحرم أنفسنا، وألا نظلم قلوبنا، وألا نضيق صدورنا، وألا نفوت هذا الخير العظيم.
فالله أسأل أن يجعل من الإيمان في قلوبنا أمناً ونوراً، وأن يشرح صدورنا بالإسلام، وأن ينور قلوبنا بالإيمان، وأن يهدي بصائرنا بالقرآن.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا هداة مهتدين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم ثبت أقدامنا، وأحسن ختامنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم مكن في هذه الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الفسق والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم زد إيمانهم، وعظم يقينهم، وفرج كربهم، ونفس همهم، وعجل نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم ارزقهم بطانة صالحةً تدلهم على الخير وتحثهم عليه، وتنهاهم عن الشر وتمنعهم منه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.