نبدأ مستعينين بالله عز وجل بما يتعلق بتعريف التاريخ، ذكر أهل اللغة فيه معاني عدة: فمن قائل: إن التاريخ هو الإعلام بالوقت، أو التعريف بالوقت، يقال: أرخت المولود أو الحدث في يوم كذا، أو أرخت الحادثة الواقعة في بلد كذا، أي: عرفتها بالوقت أو حددتها بالوقت أو أعلمت بوقتها.
ونقل صاحب كشف الظنون عن بعض أهل اللغة: أن التاريخ هو تعيين وقت ينسب إليه زمان يأتي عليه أو مطلق الزمان، سواءً كان ماضياً أو مستقبلاً.
وقيل أيضاً فيه: إنه تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع، من ظهور ملة أو دولة أو أمر هائل مما يندر وقوعه.
وهذا معنى واضح ومهم؛ لأن الأحداث مرتبطة بالزمن، إضافة إلى أن بعض الحوادث تجعل مقياساً تاريخياً، على سبيل المثال: حادثة الفيل، يقال فيها: ولد بعد عام الفيل بعامين، ولد قبل عام الفيل بكذا، أي: أن هذه الحادثة كانت عظيمة وهائلة وغير مألوفة ونادرة وليست متكررة؛ فعرفها الناس، وتناقلوا خبرها، وضبطوا وقتها، ثم جعلت مقياساً بعد ذلك.
وكما أرخ المسلمون أيضاً في عهد عمر رضي الله عنه بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت حدثاً عظيماً ترتب عليه بناء الدولة الإسلامية، والتحاق المسلمين بالنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، فجعل هذا الحدث العظيم -الذي هو حدث نادر غير متكرر- مقياساً تاريخياً، ولا يزال حتى هذا اليوم مقياس تاريخنا إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما تعريف التاريخ في الاصطلاح كعلم مستقل بذاته، فإن الأقوال فيه مسترسلة ومطردة، بمعنى: لم يأخذ العلماء فيه بما يقال في التعريفات: لابد أن تصان عن الإسهاب، وأن تكون جامعة مانعة، وإنما ذكر بعض المؤرخين تعريفات فيها إطلاق القول، وتكثير المترادفات، مما الأصل أن يصان عنه التعريف، فمن ذلك ما ذكره صاحب كشف الظنون في تعريف التاريخ حيث قال: إنه معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم.
وهذا التعريف شامل للأبعاد الثلاثة التي هي: البعد المكاني، والبعد الزماني، والبعد الإنساني المتعلق بالأشخاص.
قوله: معرفة أحوال الطوائف.
أي: الأشخاص والقبائل.
وقوله: وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم ووفياتهم.
هذا من الناحية الاجتماعية.
وقوله: وبلدانهم.
هذا يتعلق بالناحية المكانية.
أما ابن خلدون فيعرف التاريخ بقوله: هو إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول.
ثم يستطرد في ذكر الأمور التي تحدث في هذه الأزمان، كظهور دولة، أو ظهور ملك، أو موت عالم، أو نحو ذلك.
ثم أضاف إضافة مهمة تتعلق بتعريف التاريخ فقال: وفي باطنه -أي: في باطن علم التاريخ- نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق.
وهذه إضافة مهمة تدل على أن علم التاريخ يتعلق بالمعرفة الدقيقة للحوادث، والمنهجية التوثيقية للإخبار بها، كما أنه يرتبط بالنظر والتحليل والتعليل، وهي معرفة الأسباب وتحليلها، وهذا لا شك أنه أمر مهم كما سيأتي الحديث عنه.
والسخاوي يعرف التاريخ على نحو ما ذكره ابن خلدون فيقول: هو التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال من مولد الرواة والأئمة، ووفاتهم.
ثم ذكر أشياء كثيرة مما يؤرخ له، قال: وما أشبه هذا مما مرجعه للفحص عن أحوالهم في ابتدائهم، وحالهم في استقبالهم.
ثم أضاف إضافة مهمة فقال: ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة، من ظهور ملة أو كذا أو كذا.
وربما يتوسع فيه من بدء الخليقة وقصص الأنبياء وغير ذلك من أمور الأمم، وأحوال القيامة ومقدماتها.
وهذا قد صنعه بعض المؤرخين حيث أدخلوا في التاريخ ما وردت الأخبار به عن أحوال يوم القيامة، وإرهاصاتها ومقدماتها، وأدخلوه في التاريخ؛ لأنه كائن لا محالة.
وبهذا نستطيع أن نقول: إن علم التاريخ في هذه التعريفات التي أشرت إليها، يتعلق بجمع المعلومات والأخبار عن البلدان، وعن الأشخاص من حيث النشاط البشري الإنساني عبر الزمان، وكذلك عن الزمن وما يتعلق به من هذه الأحداث والأشخاص، فنقول مثلاً: زمن قيام الدولة الأموية من عام (41هـ) حتى عام (132هـ) فهذا زمن أرخنا به.
أو يقال في وفيات الأشخاص أو في مواليدهم: إن فلاناً ولد عام كذا، أو مات عام كذا، فهذا أيضاً تاريخ.
أو يقال مثلاً عن البلدان: إن أول من خط أو بنى الفسطاط هو فلان، وكان ذلك في عام كذا.
أو فتح المسلمون بلدة كذا في عام كذا.
فهذا كله تاريخ من هذا الباب.