قال أهل العلم: من دروس الهجرة درسان عظيمان.
نذكرهما ولا نقف عندهما طويلاً؛ لأننا نريد من بعد أن نذكر بهذه الدروس كلها في محور واحد نربطه بواقعنا المؤلم المحزن المؤسف في كثير من أحواله.
الدرس الأول: وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام: خلاصة هذا الدرس أن الدين وإقامة شعائره وإظهارها ورفع رايته هو الغاية العظمى والأولوية الكبرى التي عليها تدور حياة المسلمين، فلأجلها يتركون الأرض والديار، ولأجلها يقطعون الصلات والعلاقات، ولأجلها يبذلون الأموال والنفقات، ولأجلها يجودون بالأرواح في الساحات، ذلكم هو الدرس العظيم والفقه المستنبط من الهجرة.
الدرس الثاني: وجوب نصرة المسلمين من بعضهم لبعض: وجوب نصرة المسلمين لبعضهم مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناًَ.
قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله: إذا كان في المسلمين أسرى أو مستضعفون فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن، بأن لا تبقى فينا عين تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم من ذلك.
هذا فقه من هذا الإمام ليس فقه استنباط ودليل، لكنه قبل ذلك فقه إيمان ويقين، فقه استعلاء ومعرفة للحقائق الإيمانية.
وعندما مضى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هل وضع رحاله ليرتاح؟! هل ترك أذى مكة لينعم برغد العيش في المدينة؟ هل خرج من بين الأعداء ليأنس بالحياة بين الأصحاب؟ أي شيء صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أول لحظة وطئت أقدامه الشريفة مدينته المنورة؟ لقد عمد إلى بناء المسجد لربط المسلمين بالله، وعمد إلى المؤاخاة لربط العلائق بين المسلمين، وعمد إلى المعاهدة مع اليهود لتنظيم العلاقة مع غير المسلمين.
فمن لقي بالمدينة؟ لقي اليهود عليهم لعائن الله.
ولننظر إلى كلام علمائنا وأئمتنا لنعرف فقههم الإيماني والعلمي، فهذا ابن القيم رحمه الله يصف اليهود -عليهم لعائن الله- بقوله: هم الأمة الغضبية، أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الأنبياء، وأكلة السحت وهو الربا والرشا، أخبث الأمم طوية، وأردأهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء، وديدنهم العداء والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصفة، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة، ولا لمن استعملهم عنده النصيحة، بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشهم، أضيق الخلق صدوراً، وأظلمهم بيوتاً، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم طوية.
أليس هذا القول اليوم -في زعمهم- هو عين التعصب والعنصرية؟! أليس هذا هو جوهر العنف والإرهاب؟! فماذا يقول اليهود عمّا ليس في أقوال علمائهم، بل في المسطور في كتبهم بما حرفوه، إنهم يقولون: إن أمم الأرض كلها كلاب يجوز لليهود قتلها، وأموالهم حلال يجوز لهم سلبها، ونساؤهم حلال يجوز استمتاعهم بهن.
ولا يجرؤ أحد أن يقول: إن ذلك إرهاب وعنف، فأي شيء جرى لأمة الإسلام؟ عند المواقف الأولى انتصر النبي صلى الله عليه وسلم في بدر فغلا الحقد في قلوبهم، وجاشت البغضاء في نفوسهم، وظهرت أساليب الغدر والكذب والكيد والمكر على ألسنتهم، ثم تفاعل ذلك كله فظهر في تصرفاتهم.
فهذه امرأة مسلمة دخلت إلى سوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ، وجاء بعض سفلة اليهود يريدونها أن تكشف وجهها فأبت بإيمانها، فعمدوا إلى طرف ثوبها فعقدوه بأعلاه، فلما قامت انكشفت عورتها، فجعلوا يتضاحكون ويستهزئون ويسخرون، موقف واحد في أمر عارض لامرأة واحدة، فأي شيء جرى؟ صاحت مستنجدة، فانتدب لها مسلم من غير عقد مؤتمر ولا مشاورات سياسية، ولا بحث في القوانين الدولية، بل مضى ينتصر لها، وعمد إلى الصائغ فقتله، فاجتمع عليه اليهود فقتلوه، فأحاط بهم رسول صلى الله عليه وسلم وحاصرهم وأجلاهم من بعد، وأخذ من أموالهم ما أخذ عليه الصلاة والسلام، وخرجوا أذلة صاغرين، يوم كان المؤمنون كذلك عزوا وارتفعت رايتهم وعظمت هيبتهم وقويت شوكتهم، وكانت لهم في دنيا الناس كلمتهم، أفليست هذه دروساً مهمة؟ أفليست هذه صوراً حية؟ أفليست هذه صفحات ينبغي أن ننقشها على قلوبنا، وأن نجريها مع الدماء في عروقنا، وإلا بقينا أذلة صاغرين، وإلا بقينا تافهين مغيبين، وإلا بقينا تحت ذل وقهر الغلبة والظلم الذي يسلط على المسلمين.
نسأل الله عز وجل أن يرفع وأن يكشف البلاء عن الأمة، وأن يعيدها إلى العزة، وأن يخلف عليها في دينها استمساكاً بكتاب الله واعتصاماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.