جاءت الهجرة الكبرى، وجاء الإذن الرباني من الله جل وعلا للمصطفى صلى الله عليه وسلم بعد أن تهيأت الأسباب، وبعد أن أدى الجهد منه ومن أصحابه رضوان الله عليهم، فأي شيء كانت الهجرة؟! وأي درس كان أعظم فيها؟ إنه التضحية بكل شيء من أجل الدين، فكلنا يعلم هجرة أبي سلمة ومعه أم سلمة ومعهما ابنهما سلمة، يمضي تاركاً وراءه دنياه، ومخلفاً وراءه حياته الأولى ومراتع صباه وذكريات شبابه، يمضي إلى الله وإلى رسول الله وإلى مرضاة الله وإلى طاعة الله وإلى التزام دين الله وإلى إعلاء راية الله، فيأتي أهل زوجته فيقولون له: هذه نفسك قد غلبتنا عليها، أما ابنتنا فلا تمض معك.
فأخذوا زوجته، فجاء بنو أسد أهله بعد أن مضى فقالوا: هذه زوجه ابنتكم أخذتموها، أما ابننا فنأخذه.
فأُخذ الابن في جهة والأم في جهة، والأب يرى زوجته تؤسر وابنه يقهر، فهل يصده ذلك عن المضي إلى مرضاة الله؟ وهل يضعف يقينه بالله؟ وهل يستسلم لظروفه وما تجري به في هذه الحياة؟ كلا، بل يمضي إلى الله مهاجراً، ثم تمت له هجرته، وألحق الله به زوجه وابنه من بعد.
وصهيب وما أدراك ما صهيب؟! ترك غنيمة الحياة الدنيا كلها، وثمرة جهده وتجارته وصناعته، يخرج مهاجراً فيحيطون به قائلين: جئتنا صعلوكاً لا مال لك وتخرج من بين أيدينا تاجراً ثرياً؟ فقال لهم: أرأيتم لو أعطيتكم مالي أكنتم تاركي؟! قالوا: نعم.
قال: فإنه في مكان كذا وكذا.
فتركوه وذهبوا بماله كله، بدنياه كلها، بأيامه ولياليه وجهده وشقاء عمره، فهل حزن لذلك؟ وهل مضى كسيف البال؟ أو رجع مشدوداً إلى المال؟ مضى إلى الله عز وجل، فاستقبله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (بخ بخ! ذاك مال رابح)، وتتنزل الآيات: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207]، بيعة وصفقة رابحة.
وعبد الله بن جحش وزوجه وأخوه عبد بن جحش -وكان أعمى ضريراً لا يرى، وكان شاعراً- وأهله كلهم خرجوا جميعاً، لم يبق منهم أحد، خلفوا وراءهم الديار، وقطعوا العلائق، وانبتوا عن الأرض ليسموا إلى ما هو أعظم وأعلى، وهو شأن الدين والإيمان واليقين.
مر عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل فرأى عتبة هذه الديار وقد خلت من أهلها، والريح تخفق فيها يباباً، نظر إلى من تركوا الدنيا، إلى من تركوا الديار، نظر متأملاً متعجباً، ونظر كذلك بفطرة إنسانية حزيناً ثم قال: وكل دار وإن طالت سلامتها يوماً ستدركها النكباء والحوب فقال أبو جهل للعباس: ذاك ما فعل ابن أخيك، فرق جماعتنا وشتت شملنا.
وذلك هو حال الطغاة المجرمين، يفعلون الجريمة، ثم ينسبون الإجرام والإرهاب إلى المظلومين ويتهمونهم به، كما نرى في واقعنا اليوم.
أما أبو بكر -وما أدراك ما أبو بكر! - فقد جعل وقته وعمره وماله وثروته وأهله وبنيه وداره وأرضه وروحه ونفسه جعلها كلها تضحية في الهجرة، فقد حبس نفسه لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أشهر، هيأ ماله، وعلف راحلتيه، وترك زوجه وأبناءه، وترك داره وأخذ كل ماله ومضى مخاطراً بروحه ونفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاء الموقف العظيم، ووقف المشركون على فم الغار، وإذا بـ أبي بكر شفقة ورحمة يقول: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا.
فينطق اليقين والثبات والإيمان على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم-: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) وتتنزل الآيات تصف هذه المواقف العظيمة: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
فمن يحزن والله معه؟ ومن يضعف والله يعينه؟ ومن يذل والله يعزه؟ ومن يخاف والله يؤمنه؟ ذلك درس التضحية العظمى في هذه الهجرة، تضحية لأجل الدين تقول لنا: إن الأولوية في حياة المسلمين التضحية لأجل الدين.
كان محمد صلى الله عليه وسلم في مكة سيد ساداتها وشريف أشرافها، وذا الذروة العليا في أنسابها، وقد جاءته قريش وقالوا له: إن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً حتى تكون أكثرنا مالاً.
عرضوا عليه دنياهم كلها فركلها برجله، واستعلى عليها بإيمانه ويقينه وإسلامه عليه الصلاة والسلام، فلم تكن حياة المسلمين رغبة في الدنيا ولا سكوناً إليها ولا طلباً للسلامة، ولو كان ذلك كذلك لعاشوا مسالمين هانئين موادعين، وحسبهم في ذلك أن ينكفئوا إلى دورهم، أو أن يؤدوا شعائرهم، لكنه الإيمان والإسلام أولى الأولويات في حياة المسلمين.
ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناءٍ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، لكن الهجرة أمر آخر، إنها إكراه رجل آمن في سربه ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه وأمواله والنجاة بشخصه فحسب، وإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو في نهايتها، لكنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش.