أولاً: قوة التأثير: إن الكلمة وحدها مهما كان لها من شواهد وأدلة، ومهما كان لها من رصف وتنسيق لا تؤدي قوتها ما لم يكن ورائها قلب متحرق ونفس متحمسة يشعر الإنسان بنبض هذه المشاعر في كل حرف من هذه الحروف، فإذا كانت الكلمة حماسية كأنها لهب يتفجر، وإذا كانت الكلمة وعظية كأنها غيث يصيب أرضاً جدباء فيحييها من جديد، ويورق منها ما كان قد غارت عنه مياه الحياة.
وإذا تأملت في بعض الأمثلة والمواقف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تجد هذه الصورة بينة واضحة، فقد وصُف عليه الصلاة والسلام بأنه إذا خطب كأنه منذر جيش؛ حيث كان يحمر وجهه عليه الصلاة والسلام، ويظهر أثر انفعاله في هذه الكلمات، وكما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا) إذاً: لم تكن تلك الكلمات تأثيرها بمجرد العلم؛ فإن كثيراً من العلم إذا فقد العاطفة لا يؤدي أي تأثير وإلا لكان اتصال الإنسان بالكتب كافياً في أن يقوم سلوكه، وفي أن يوقظ حماسه وهمته نحو الخير والصلاح.
وكذلك انظر إلى الموقف الذي كان في يوم حنين، فلما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم بين مسلمة الفتح والمؤلفة قلوبهم، ولم يقسم للأنصار رضوان الله عليهم، وجدوا في نفوسهم موجدةً، وقالوا: قد لقي محمد صلى الله عليه وسلم أهله وعشيرته.
فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليهم وقال: (يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم وموجدة وجدتموها علي؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ ثم قال لهم: حدثوني بما عندكم قال في آخر الحديث: فبكوا حتى أخضلت لحاهم من الدموع) إذاً: للكلمة سر في العاطفة التي وراءها، وفي القلب الذي يخفق بمعانيه قبل أن ينطق اللسان بكلماتها وحروفها.