النقطة الأخرى التي معنا مسألة التنازع والاختلاف، وهي قريبة من هذا، لكن هذه أخص، وهي عدم الفقه في مثل هذه الأمور، وهو أن هناك أموراً لا يمكن اجتماع الأمة فيها على قول واحد، بل إن الله جل وعلا قضى -وقضاؤه فيه عدل وحكمة ورحمة- أن أموراً كثيرةً يظل فيها اختلاف، ومن تلك الأمور الاختلاف في المسائل الفقهية الفرعية، وبعض ما ليس معلوماً من الدين بالضرورة، وبعض المسائل الدقيقة التي قال عنها ابن تيمية: ليست أدلتها جلية واضحة، ويقع فيها الاختلاف، ووقع في سلف الأمة، ويقع في حاضر الأمة، وسيقع أيضاً في مستقبل الأمة، فلماذا يكون التنازع والاختلاف فيما هو سائغ فيه الاجتهاد؟ ينبغي ألا يكون هناك تنازع واختلاف إلا فيما يخرج عن المعلوم من الدين بالضرورة، أو يخالف صريح القرآن والسنة النبوية المطهرة، أو الذي يأتي ببدعة مكفرة واضحة بينة، وبين له ثم لم يرتدع، وهذا أمره ظاهر بين لا أظن أنه يلتبس، ولكن كثيراً من النزاع والخلاف الواقع هو فيما دون ذلك، وللأسف أنه يقع في مثل هذا التنازع والاختلاف التشهير والتعيير، مع أن الأمر لا ينبغي أن يكون كذلك، وإنك تجد من أثر هذا أن يشهر أو يعير بأهل الخير لمجرد اختلاف في الاجتهاد، وهذا لا شك أنه انتكاس وانعكاس في الموازين كما قال أبو العلاء: إذا وصف الطائي بالبخل مادر وعيّر قساً بالفهاهة باقل وقال السها للشمس أنت خفيةٌ وقال الدجى يا صبح لونك حائل وطاولت الأرض السماء سفاهةً وفاخرت الشهب الحصى والجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل وإن كثيراً من الأمور أحياناً يقع فيها مثل هذا الأمر.