لا شك أن التكفير والتبديع أكثرها شراً وضرراً وخطراً؛ لأن فيه استباحة دماء؛ ولأن فيه إخراجاً عن الملة؛ ولأن فيه اجتراءً خطيراً ينبغي ألا يقدم عليه الإنسان من غير تثبت وتبين وحرص ودقة وتروٍ؛ ولذلك وقفتي فقط أن أبين أن هذه القضية في غاية الخطورة، وسنجعل لهذه القضية إن شاء الله مواضيع أخرى مستقلة بذاتها.
جاء في الحديث عند الشيخين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فليست القضية سهلة، إما أن يكون الذي اتهم بالكفر مستحقاً لهذه التهمة، وإما -والعياذ بالله- أن تكون هذه الكلمة والوصمة تعود على قائلها.
وفي الحديث الذي في صحيح مسلم: (أنها إذا لم تقع على صاحبها رجعت على قائلها) والعياذ بالله! ولذلك قال ابن حجر: والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وقيل: الراجع هو التكفير لا الكفر.
أي: أن التكفير يعود عليه ليس أصل الكفر.
ويقول: ابن حجر الهيتمي أيضاً: من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه، أي: رجع هذا الوصف عليه.
ولذلك ينبغي أن نستيقن كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم فيه من الله برهان).
وينبغي أن نعرف أن هناك أموراً ثلاثة يدفع بها كثير من الأمور ومن أهمها التكفير، وينبغي النظر فيها قبل الحكم بالتكفير وهي: الأمر الأول: التأويل, كأن يقول قولاً كفرياً، لكنه متأول يحتاج إلى بيان وإلى إيضاح.
الأمر الثاني: الجهل، كأن يقول قولا ً أو يفعل فعلاً كفرياً وهو جاهل به غير عالم به.
الأمر الثالث: الإكراه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فلا بد من وجود الشروط وانتفاء الموانع، وليست القضية سهلة؛ ولذلك الأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك بدليل شرعي، ولا يجوز التساهل بالتكفير أو التبديع أو التفسيق؛ لأن في ذلك محاذير كثيرة أعظمها: الأول: أنه افتراء الكذب على الله تعالى في الحكم على المحكوم عليه بما ليس صحيحاً.
الثاني: أنه يقع عليه ما يتهم به غيره إن لم يكن كذلك؛ ولذلك لا بد من النظر في دلالة الكتاب والسنة، وانطباق القول على هذا القائل المعين، فإن القول قد يكون كفراً، ولكن لا يكفر قائله؛ لأنه عنده بعض الأعذار التي تصرف عنه مثل هذا الأمر، والمسألة في مثل هذا طويلة.
ذكر الشيخ الشنقيطي رحمة الله عليه في تفسيره كلاماً نفيساً في مسألة النهي عن تكفير المعين، والتنفير منها، فيقول: اعلم أنك إن مت ولم تقل في فرعون شيئاً لم يؤاخذك الله تعالى بذلك يوم القيامة، أي: ليس مطلوباً منك أصلاً أن تحكم على عباد الله، وأن تعطيهم درجات ومنازل في جهنم، هذا في الدرك الأسفل تتهمه بالنفاق، وهذا مخلد تتهمه بالكفر، وذاك مبتدع يستحق من الله عز وجل كذا وكذا، الأصل أنك لست مطالباً بهذا، لكنه يكون مهماً في أحيان كثيرة؛ لئلا تتميع الأمور، ولئلا يلتبس الحق بالباطل على الناس، فإن من أشهر كفره، وقال مقالة الكفر؛ ينبغي أن يبين أن هذا القول كفر، وأن المعتقد له مع وجود الشروط وانتفاء الموانع كافر، لكن تكفير المعين أمر آخر، حذر منه أهل العلم، وغالب أهل السنة لا يقولون بتكفير المعين، قال صاحب الطحاوية: ولا ننزل أحداً منهم- أي: من المسلمين- جنة ولا ناراً، وقال الشارح: أي: لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار، إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة أو من أهل النار.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: ثم حكم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبته -أي: الشخص المعين قد يقول قولاً فيه كفر، لكن حكم الوعيد يلغى في حقه بتوبته- أو حسنة ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه قد يكون الرجل حديث عهد بإسلامه، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً.
يقول: وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: (إذا أنا مت فاحرقوني، ثم ذروني في البر والبحر، فوالله! لئن قدر الله علي ليعذبني)، هذا الحديث ذكره ابن تيمية في ثلاثة مواضع من فتاواه بتفصيل وتطويل واسع، يذكر فيه أنه لا بد ألا يكون هناك تعجل في التكفير إذ قد يكون استحق التكفير، لكن صرفه عنه صارف، ثم قال: وإني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً تارة وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ بالمسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.