بين علم الشرع وعلم الواقع

ذكر بعض الإخوة أن هناك من يقول: إن القول في السياسة أو الاعتناء بمعرفة الأخبار أو نحو ذلك ليس من الدين، وأنه ينبغي لطالب العلم فقط أن يقرأ كتب العلم في العقيدة والفقه والحديث، ولا شأن له بما وراء ذلك، ويذكر هذا الأخ في سؤاله ويقول: أليس هذا هو عين قول العلمانيين الذين يريدون أن يكون المسلم منشغلاً أو مرتبطاً فقط بالأحكام الفقهية، ولا يرتبط بواقع الحياة؟ نقول: نعم، هذه هي تلك، لا فرق بين هذه وهذه، إلا أن هذا القول من مسلم، أو من طالب علم أو من موجه أخطر؛ لأن العلماني أو المستغرب لا يقبل منه الناس، لكنهم يقبلون من الخطيب أو الإمام أو الواعظ أو الداعية، فإن جاء مثل هذا القول من هؤلاء كان أشد خطورة في هذا الأمر.

وأحب أن أوجز القول في هذا: فإن علم الشرع مطلوب، ومعلوم أن هناك واجبات عينية على الإنسان المسلم أن يتعلمها من فرائض الله سبحانه وتعالى، بدءاً من المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بأركان الإيمان.

ثم بعد ذلك معرفة الفروض العينية مثل: الصلوات وأحكام الطهارة، ثم ما يلزمه في وقته كالحج لمن أراده، أو الزكاة لمن وجبت عليه، وكل ما عدا ذلك فرض كفاية من الزيادة في العلم لمن أراد أن يتصدر للتعليم أو الفتوى أو غير ذلك، لكن علم الواقع أمر مهم جداً، وفيه رعاية اختلاف ظروف الزمان والمكان والأشخاص، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان السائل يسأله نفس السؤال، وتتعدد إجاباته صلى الله عليه وسلم، وما اختلفت إلا باعتبار اختلاف حال السائل، فذاك يسأله فيقول: (أوصني، فيقول: لا تغضب)، ويسأله الآخر ويقول: (أوصني، فيقول: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وفي مسند الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر: (أن سائلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن القبلة في الصيام فأفتاه بمنعها، وجاء سائل آخر فسأله عن القبلة للصائم فأفتاه بجوازها، فلما سئل النبي عليه الصلاة والسلام قال: ذاك شاب لا يملك أربه، وذاك شيخ كبير ليس له في النساء مأرب)، فاختلف الجواب باختلاف حال السائل، وكذلك اختلاف حال الأمة وظروفها، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار في بيعة العقبة قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: (لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا، قال: لا، فإنا لم نؤمر بذلك)، حقاً إنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه وهو مشرع، لكن على من جاء بعده أن يقتبس منه ويستنبط.

وكذلك عليه الصلاة والسلام كان يعرف أحوال القبائل وعاداتها وتقاليدها؛ ولذا كان يحرص على إسلام زعماء القبائل؛ لأنه كان يعلم أن الناس تبعاً لقادتهم، وكان يعرف ما عليه أهل كل قوم، وأهل كل قبيلة من بعض العادات ومن بعض الرسوم والأمور التي يحرصون عليها، فكان يعرف كل هذا ويراعيه.

بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر مقتبساً من غير المسلمين، فقد ورد عند الإمام مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قد نهيتكم عن الغيلة، وإني رأيت فارس والروم يغيلون ولا يضرهم)، والغيلة: المقصود بها: الجماع في وقت الرضاع، فإنه قد يضر بالرضيع، لكن النبي عليه الصلاة والسلام رأى واقع الناس، ورأى ظروف الحال، ورأى أن مثل هذا لا حرج فيه، فلم ينههم عنه عليه الصلاة والسلام.

وكذلك قال في شأن تأبير النخل: (أنتم أعلم بشئون دنياكم).

فتتبع أحوال المسلمين، والتعرف على أخبارهم، ومعرفة مكائد الأعداء، لا شك أنه من أكثر ما يدفع به الضرر عن المسلمين، وتجلب به المصالح لهم، والإعراض عن مثل هذا لا شك أنه شطط في القول، وأنه مغايرة ومنافرة في طبيعة الواقع، فإن الإنسان في طبيعة حياته المعتادة في تجارته في وظيفته في عمله يرتبط بالواقع، ويسأل عن الأحوال، ويسأل عن الأسعار، ويسأل عن الوظائف، ويسأل عن الترقيات، ويسأل عن النظم واللوائح؛ ليعرف ما يتجنبه، وليعرف ما يأخذ به لينتفع به، فكيف في حال الدين وفي حال حيازة مصلحة الإسلام والمسلمين؟ هل يبقى لا يفطن إلى هذا ولا ينظر إليه؟ لا شك أن هذا خطأ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015