الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم ما يقدم به العبد على مولاه، ونحن في موسم التقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فلنأخذ زادنا عظيماً وفيراً إلى ما بعد هذا الشهر كذلك.
ولعل لي وقفة أخيرة في شأن الأرباح التي نجنيها، ولماذا لا نتعلق بها ونستمر عليها، وهي قضية مهمة لعلنا أن نحرص عليها، وأن نجاهد أنفسنا فيها، وأن نجتهد في تحصيل الأسباب لها.
ذلكم أيها الإخوة المؤمنون! هو أمر الإخلاص لله عز وجل، وصدق التعلق به، وحقيقة الإقبال عليه حتى نصل إلى المبتغى والمراد والغاية من هذا الإقبال عليه، ومن تلك الطاعة له، ومن صور العبادة التي نجتهد فيها، وهي أن تخلص إلى قلوبنا، فنشعر بالسعادة، وتخلص إلى نفوسنا فنتذوق اللذة، وحينئذ تصبح قلوبنا مشدودة إلى الطاعة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منها حتى يرجع إليها).
فانظروا إلى هذا التشوق الذي يذكره لنا المؤمنون الصادقون المخلصون الذين يبينون لنا حقيقة مهمة، وهي أنه إذا خلصت لنا روح العبادة فإنه سيكون لنا بها تعلق وارتباط في كل لحظة وسكنة، وفي كل ظرف وحال، ولذلك سئل أحد الصالحين: ما أفضل عملك؟ فأجاب إجابة حري بنا أن نصغي إليها بقلوبنا فقال: ما أتتني صلاة قط إلا وأنا مستعد لها ومشتاق إليها، وما انصرفت من صلاة قط إلا كنت إذا انصرفت منها أشوق إليها مني حين كنت فيها، ولولا أن الفرائض تقطع لأحببت أن أكون ليلي ونهاري قائماً راكعاً ساجداً! إنه يستعد لها، ويشتاق إليها، وهذا دليل على حب، وتعلق، وهيام، ولذة نفس، وطمأنينة قلب، وراحة بال، وأنس في الإقبال على الله عز وجل، يفسره لنا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال!) ويفسره لنا فعله صلى الله عليه وسلم حيث كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وتفسره لنا نداءات القرآن كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وتفسره لنا الصورة المثلى لرسولنا صلى الله عليه وسلم عندما قال: (جعلت قرة عيني في الصلاة).
ونفهم منها حاله حينما كان يصلي فيقوم حتى تتفطر قدماه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يشعر بلذة المناجاة، ولأنه لا يشعر بثقل الوقوف، ولا بشدة المعاناة؛ لأن حلاوة المناجاة تغلب شدة المعاناة، فلا يكاد يشعر بشيء، ونحن حالنا -إلا من رحم الله- على غير ذلك، فإن أطال الإمام في آية أو آيتين شكى الناس شكوى عظيمة، وإن صلوا مرة وزادوا رأيتهم وهم يفرقعون أصابعهم، ويتفقدون ركبهم، وينظرون إلى حالهم! فلماذا نحتاج أن نتأمل ونتدبر، ونحن نحتاج أن نعيش في روح هذه العبادات؟ فإننا إن فعلنا كان لذلك أثره الأعظم في استمرارنا فيما يأتي من أيامنا في غير هذا الشهر الكريم، ولعلنا كذلك نتذوق لذة تلاوة القرآن، ونستعذب حلاوة التضرع والانكسار بين يدي الله، ونرى روحاً عظيمة مؤثرة في كل دعوة إلى الله عز وجل ندعوه بها، ونستشعر أنساً وراحة في كل إنفاق ننفقه، وفي كل سرور على مسلم ندخله.
ودعونا نعيش في روح هذه العبادات وهذه الطاعات؛ ليكون أجرنا من الله عز وجل عظيماً، ومن جهة أخرى لتكون لنا السعادة، وهي جزء من الأجر مقدم للمؤمن، وذلك فيما يشعر به من سعادة نفسه وروحه وأنس قلبه وطربه، كما قال أهل العلم من العلماء العاملين والعابدين: (والله إننا لفي لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك، ثم لم يجدوا إلا أن يجالدونا عليها بالسيوف لفعلوا)! تلك اللذة العظيمة هي لذة الإيمان، ولذة الطاعة، ولذة العبادة، وقد أخبر عنها أيضاً بعضهم فقال: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: لذة العبادة والطاعة والمناجاة.