فإذا كان يوم التاسع -وهو يوم عرفات- شرع الحجاج في التوجه إلى عرفات، والسنة أن ينزل بنمرة قبل الزوال، وألا يدخل عرفة إلا بعد الزوال متى تيسر ذلك؛ فإن لم يتيسر فإنه لا بأس أن يدخل عرفات ولو قبل الزوال، لكنه يصلي بعد الزوال صلاة الظهر والعصر قصراً مع التقديم لهما، ويستمع لخطبة الإمام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خطب المسلمين في هذا الموقف خطبته العظيمة، وهي خطبة حجة الوداع التي ركز معالم الإسلام العظيمة فيها.
وبعد هذا الوقت ينشغل العبد المؤمن في هذا اليوم العظيم الذي تجتمع فيه الحشود وتختلط فيه الأصوات وتتخالف فيه اللغات، ويكون كل المسلمين فيه على زي واحد في صعيد واحد، يبتغون مبتغىً واحداً وهو رضوان الله عز وجل ومغفرة الذنوب، فينبغي أن يشتغل بالذكر والدعاء، وأن يلح في الدعاء والتضرع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له).
يوم عرفة الذي يغفر الله عز وجل فيه ذنوب العباد.
يوم عرفة الذي يباهي الله عز وجل فيه بهؤلاء العباد ملائكة الرحمن سبحانه وتعالى.
يوم عرفة الذي يدحر فيه الشيطان ويخزى لما يرى من تذلل العباد وتضرعهم لخالقهم ومولاهم سبحانه وتعالى.
يوم عرفة الذي يذكر بيوم المحشر ويوم القيامة وانتظار الناس للفصل في يوم القضاء الأعظم بين يدي الجبار سبحانه وتعالى.
يوم عرفة الذي يتذكر فيه الناس أنه لا مبتغى ولا غاية ولا شيء يشد القلوب، ولا يصرف الألباب، ولا يعلق الأبصار ولا ينطق الألسن إلا هو سبحانه وتعالى.
يوم عرفة يوم يغتسل فيه العبد من ذنوبه وآثامه بإذن الله، ويغسل بدمعه كل ما سلف، بندم صادق لله، ويغسل عن قلبه كل الآثام والشهوات والشبهات بإخلاص العبودية لله، يوم تغتسل فيه الأمة من كل أسباب الفرقة التي فرقتها من وطنيات وقوميات ولغات وحدود فتجتمع على صعيد واحد لتقول: نحن أمة الإسلام، نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نحن أمة التوحيد، نحن أمة الآخرة التي تجعل الدنيا معبراً إليها وحرثاً وزرعاً لها، نحن أمة التضرع والعبودية والذلة لله، نحن أمة القوة المستمدة من الصلة بالله سبحانه وتعالى.
يوم عرفة يوم عظيم من أيام الله عز وجل ينبغي أن تشتاق له القلوب، وأن تذرف له الدموع، وأن ترفع فيه الأكف، وأن تسجد فيه الجباه، وأن تتعلق القلوب والنفوس بالله سبحانه وتعالى.
يوم عرفة ليس يوماً للأكل والشرب، ليس يوماً للحديث والكلام، بل هو يوم من أيام الله عز وجل ينبغي أن يخرج فيه الإنسان عن كل شيء يصرفه عن تعلقه بالله وتذكره وطلبه وابتغاء مرضاته، وخوفه وخشيته من عقاب الله، وتذكره يوم المحشر العظيم بين يدي الله.
يوم عرفة يوم عظيم نسأل الله عز وجل أن يبلغنا إياه، وأن يغفر لنا فيه الذنوب والآثام، ومن لم يشهد يوم عرفة فإن الله جعل له من ذلك بعض عوض وشيء من عزاء، فإن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب عامين: عاماً قبله وعاماً بعده، فأي فضل عظيم مثل فضل هذا اليوم؟ نسأل الله عز وجل أن يسهل أمر الحجاج، وأن يتقبل منا ومنهم، وأن يتقبل من كل مسلم يبتغي رضوان الله عز وجل.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.