تلك أمة كانت دعوتها هي غايتها، وذلك هو الذي ينبغي أن تتذكره أمتنا اليوم، وقد فتنت بالعروش واشتغلت بالسلطان وتنافست على الملك، وجعلت ذلك أوكد همها وغاية قصدها، فضلت عن مسارها، وضيعت دعوتها وافتقدت رسالتها، وغيبتها تلك الأحداث كلها لتكون من سقط المتاع، ولتكون في ذيل قائمة الأمم تأثيراً وقيادة وريادة؛ لأنها لم تدرك أنها إنما وجدت في هذه الحياة لتقول: إنها أمة الإسلام ولترفع راية الإيمان، ولتعلم أن كل جدها وجهدها وقوتها وسلطانها وملكها ومالها إنما هو لإعلاء كلمة الله ولإعزاز دين الله، ويوم تفقد غايتها وتتخلى عن رسالتها فلن تكون لها عزتها ولن تعود لها قوتها، ولن تتبوأ في هذه الحياة الدنيا وفي هذه البشرية قيادتها وريادتها كما كان عليه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وأمة الإسلام على مدى تاريخها الطويل.
وتأملوا ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة، والقلوب متشوقة للقائه، والنفوس متلهفة لتسخر كل جهدها وطاقتها وفق أمره وإرشاده، هل بنى قصر الحكم؟ هل شيد دار الإمارة؟ بدأ ببناء المسجد؛ ليعلق القلوب به وليربط الخلق بالخالق، وليقول لأمة الإسلام: كل أرض تدخلونها، وكل فتح تفتحونه، فابدءوا فيه بأن تؤكدوا صلتكم بالله عز وجل، فذلكم هو أساس وجودكم وهو سر قوتكم وهو ضمان وأمان استمراركم بإذنه سبحانه وتعالى.
ثم ألف بين القلوب وآخى بين المهاجرين والأنصار، فآوى بلالاً، وآخى صهيباً، ونادى بـ سلمان في العالمين، وأخرج النموذج المثالي الفريد الذي ليس في البشرية كلها نموذج مثله، يوم نبذ كل الاختلافات في الأعراق والأنساب والقدرات والطاقات والملكات وجعلها كلها تحت لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يكن فرق بين أبي بكر التيمي ولا عمر العدوي ولا بلال الحبشي ولا صهيب الرومي، إنما كلهم أهل إيمان فضلهم بتقوى الله، عزهم بالبذل والتضحية لإعزاز دين الله، شرفهم ومناقبهم بحسب ما كان من دعوة الله عز وجل، المهاجرون إنما فضلهم بهجرتهم لذلك، الأنصار إنما فضلهم بنصرتهم لذلك، البدريون إنما هم أصحاب فضل وتقدم على الأصحاب لذلك.
وهكذا معاشر الإخوة المؤمنين يوم يكون تفاضلنا ببذلنا لدعوتنا وبقيامنا بحق ديننا، يوم تكون المراتب بحسب ما يبذل المرء لدينه ولأمته ولرسالته؛ يومئذ لا يكون فينا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتصدر في الناس الرويبضة، قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله! قال: (الرجل التافه يتكلم في شأن العامة)، إنما يتصدر الرجل ويتقدم بحسب ما يكون من بذله لدينه وأمته، الدين هو الهدف والغاية، والدين هو المنهج والطريق ذلكم ما تقرع به الهجرة آذاننا وعقولنا، كلما تجددت ذكراها وكلما انقضى عام وأتى عام.