الدعوة لا بد أن تكون قوية صلبة لا يفتر أصحابها ولا يضعفون، ولا ييأسون ولا يكلون ولا يملون ولا يتوقفون ولا يسكنون، خذوا شرقاً فإن صدت الأبواب فغرباً، وامضوا شمالاً فإن وجدت العوائق فجنوباً، لا بد أن تحملوا دعوتكم وإيمانكم في أعماق قلوبكم، وفي أغوار نفوسكم، وأن تجري مع دمائكم في عروقكم، وأن تكون هي خواطر عقولكم، وكلمات ألسنتكم، يوم ذلك ستكونون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا في ذلك الوقت هم الأمة النموذجية المثالية بوجود القدوة العظمى عليه الصلاة والسلام، ووجود الصحب الكرام الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيه وحمل دينه وتبليغ دعوته.
وذلكم درس عظيم لا بد منه، إنهم في سبيل إمضاء هجرتهم لإقامة مجتمعهم وتشييد دولتهم، وقبل ذلك لإنفاذ دعوتهم وإظهار إيمانهم؛ جادوا بكل شيء، ولسنا بصدد ذكر قصص الهجرة فأنتم تعرفونها، فقد فرق بين أبي سلمة وزوجه أم سلمة وابنه عمر بن أبي سلمة، فما صد ذلك أحداً منهم عن أن يمضي لمراد الله عز وجل، ولطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولإحقاق وإعزاز دينه، وصهيب الرومي خلف ثروة حياته كلها وجهد أيامه ولياليه من المال والثروة ليمضي إلى دعوته وإيمانه، وليلحق بنبيه ورسوله وليعلي أمته ودعوته.
وكذلكم كان من بعد آل جحش عبد الله وأهله وأخوه الضرير أبو أحمد، وأولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عندما بلغوا المدينة وأصابتهم حماها واشتد بهم المرض، ورأوا ما هو عظيم في الناحية البدنية، وجسيم في الناحية النفسية، من أرض تركوها وبلاد نشئوا فيها، وأموال خلفوها، إلى أرض ليس لهم فيها موطن ولا عمل ولا مال، فشق ذلك على النفوس، ودخلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أبي بكر وقد اشتدت به الحمى وهو يقول: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وبلال اشتدت به الحمى فقال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل يتذكرون ديارهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك لهم في المدينة وأن يجعل فيها ضعفي ما في مكة من البركة، وأن ينقل حماها إلى الجحفة، فبرئت الأجساد، وتواصلت المسيرة.