وفي مقابل ذلك أيضاً جاء التغير عند القوم الذين يعادونهم من شذاذ الأرض وأفاكيها، وهم اليهود عليهم لعائن الله، لقد كانت أجيالهم الأولى أشد ارتباطاً بعقيدتها منهم وأكثر تضحية، وجاءت الأجيال المتتالية والمهاجرون الذين وعدوا بالنعيم والترف والثراء فتغيروا ولم يعد حالهم كحالهم الأول، وجاء ذلك أيضاً بسنة الله عز وجل كما قال: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، يخاطبنا الله فيقول: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: يا أصحاب العقول! انتبهوا والتفتوا إلى الحقائق.
إنه أمر عجيب، فهذا جيش هو الخامس في العالم، وأمامهم من حيث الناحية المادية والعددية فئة قليلة، فهي لا تملك من أسباب القوة المادية شيئاً يذكر بالمقارنة مع عدوها، ولكن ما هي النتيجة؟ انظروا إلى هذه الآيات تصف لنا حال فئة من اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نقضوا العهود، وطعنوا المسلمين في ظهرهم، وأرادوا ارتكاب الجريمة العظمى بمؤامرتهم على قتل المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد بنوا الحصون، وعندهم الأموال الطائلة، فهذه الآيات تصف ما كانوا عليه من أوهام الدنيا التي يعيشون فيها، بل إن القرآن يخاطب أهل الإيمان: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر:2]، أي: ما كان أحد يتصور ذلك؛ لما كان لهم من مقام طويل ومال وفير وعدد غفير ومجتمع مترابط منعزل عن غيره، قال سبحانه: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2]، أي: أنهم أخذوا أسباب القوة المادية بأعظم وأعلى صورها، ولكن: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2].
إن قدر الله غالب، وإن سنته ماضية، وإن نصره لعباده متحقق، وإن العاقبة للمتقين، ذلك ما تكشف عنه هذه الحقائق.