الأمر الثاني: أن هذا الهول الذي نذكره، وهذا الخطب العظيم الذي لا نكاد أن نتصوره، لا يعد شيئاً أمام الهول الأكبر الذي ساق الله لنا بعض أخباره، وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه في أحاديثه مما يشيب لهوله الولدان، فكيف نغفل عن ذلك وإذا جاء مثل هذا وجدنا خوفاً كبيراً، وذهولاً مثيراًً، وعجزاً تاماً، وحيرة كاملة.
كلنا رأى كيف انخلعت القلوب، كيف طاشت العقول، كيف اضطربت الدول، كيف ماج العالم كله أمام هول واحد من أهوال الدنيا، فكيف بهول نهاية العالم وانتهاء هذه الحياة كلها وطي صفحتها؟! كيف بهول القيامة؟! كيف بهول الحشر؟! كيف بهول النشر؟! كيف بهول البعث؟! كيف بهول الوقوف بين يدي الله؟! كيف بهول المرور على الصراط؟! كيف بهول تكاثرت فيه الآيات وتعددت فيه الروايات؟! سبحان الله كم يسوق الله جل وعلا لنا العبر، وكم تذكر الآيات ذلك الهول ووصفه بصور تنخلع لها القلوب المؤمنة، وتجفل منها وتتذكر وتتعظ بها: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} [الطور:9 - 10] قال السعدي في تفسيره: وذلك لعظم أهوال القيامة، وفظاعة ما فيه من الأمور المزعجة، والزلازل المقلقة التي أزعجت هذه الأجرام العظيمة، فكيف بالآدمي الضعيف؟ {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:8 - 10] قال ابن كثير: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] أي: ذهب ضوءها، {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات:9] أي: انفطرت وتشققت، ووهت أطرافها، {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:10] أي: ذهب بها فلا يبقى لها أثر ولا عين.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:106 - 107].
وإذا مضيت وجدت الآيات في كل هذه الصور كثيرة وعظيمة، وهولها هائل، ومن أبلغ ما جاء فيها ومما ينبغي استحضار تذكره وتدبره: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] هول تنصرف فيه الأم الحنونة عن ابنها الرضيع، هول يجعل الأرحام تقذف ما فيها، هول لا يسأل فيه أحد عن أحد: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -كما صح عند البخاري وغيره- تستمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (يبعث الله عز وجل الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، فقالت أم المؤمنين: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ -فطرة الحياء والإيمان أنطقتها- فقال صلى الله عليه وسلم: إن الأمر أشد من أن يهمهم ذلك) إنه أمر لا يبقى فيه للعقل انصراف إلى شهوة، ولا تفكير في لذة، إنه هول صوره حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
وهاهو صلى الله عليه وسلم يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الله تعالى).
ألسنا نقرأ هذه الآيات؟! ألسنا نعرف المعاني والدلالات؟! فأين التذكر والاتعاظ والاعتبار؟! أين الإيمان الذي ضعف في القلوب؟ أين اليقين الذي تزعزع وتضعضع في النفوس؟ أين استحضار ذلك كما كان حاله صلى الله عليه وسلم عندما قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم قرنه، وأحنى جبهته ينتظر الأمر بالنفخ في الصور) الأمر أعجل من أن تبنى الدور وأن تؤثث القصور، وأن يتزاحم على الدنيا أهل الدثور.
وقديماً قال بعض الحكماء: لو تأمل الإنسان في حاله لبنى داره على شفير قبره.
تلك صورة من الهول الدنيوي الأرضي العابر تذكر المؤمنين بالهول الأخروي الذي ينبغي أن يهيئوا أنفسهم له، وأن يستحضروا دائماً هوله ليزجرهم عن المعاصي والسيئات، وليدفعهم إلى الطاعات والقربات، وليجعلهم دائماً في خوف من سخط جبار الأرض والسماوات، فإذا كان حدث واحد زلزل العالم كله، وقضى على الآلاف المؤلفة من الأرواح، وشرد الملايين من البشر، فأي هول يمكن أن يقارن بعد ذلك بالهول الذي جاءت به الآيات، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إنه لحري بنا أن نجعل هذه الحقائق في قلوبنا، وأن نتلو الآيات، وهي بالمناسبة من السور التي يكثر تلاوتها في الصلوات: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] فإننا قد نسمعها في كل يوم، أو على أقل تقدير في الأسبوع مرة أو أكثر، فأين القلوب المتعظة؟ وأين العقول المتدبرة؟ وأين الأحوال المتغيرة؟ وأين الاستقامة والإنابة التي ينبغي أن نلتفت إليها وننتبه إلى حقائقها؟!