أولها: الانتباه إلى قدرة الله: فقدرة الله لا يعجزها شيء، قدرة لا يستطيع الخلق أن يتصوروها، ولا أن يعرفوا مدى حجمها، ولا أن يحيطوا بآثارها وما قد ينجم عنها، وذلك في حس المؤمن له آثار كبيرة، إن علمت أنه جل وعلا رب الأرباب، وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، وأنه كما قال جل وعلا: {وللَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:4]، وأنه كما قال جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] وأنه كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فما بالك تستمد القوة من غير قوة الله؟! وما بالك تخضع وتخاف وتذل لقوة الخلق والبشر؟! وأين هذه القوة؟! لو كانت على هذه السواحل الطائرات الحربية، والدبابات المدمرة، فهل ستقف أمام هذه القوة العاتية من زلزال في ثوان معدودات أو دقائق قليلة؟! ومن أمواج ماء البحر الذي نركبه ويركبه الناس كل يوم؟! ثم انظر وتأمل ما الذي يجري في واقع المسلمين وواقع الأمة اليوم، وقد خضعت الرقاب، وذلت الأعناق، وسلمت الديار؛ خوفاً من قوة تسمى: قوة عظمى، ولله جل وعلا القوة العظمى قال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] هو الذي بين لنا حقائق ذلك في كتابه: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74].
إن الذين ركنوا إلى قوى الأرض ما قدروا الله حق قدره، وما أيقنوا أن الله هو القوي العزيز: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر:44].
ونموذج قرآني واحد أقدمه ليكشف عن بعض هذه القوة عند قوم كانوا جبابرة في الأرض، وكانوا قد سخروا وذللوا كثيراً من أسباب الأرض حتى نحتوا الجبال، وجعلوا بيوتهم وقصورهم في أعماقها وبطونها، قوم كانوا يرون أنه ليس هناك من هو أقوى منهم، ولا من هو أقدر على مواجهتهم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:15 - 16].
مستكبرون، مغترون بقوتهم، يقولون بلسان الكفر والفجور: من أشد منا قوة؟! كل قوى الأرض تخضع لنا، ونحن قادرون على البطش بها، وعلى الانتصار عليها، وينسون الذي خلق، والذي مكن من الأسباب، وأنه جل وعلا قادر على قهرهم، فأرسل عليهم واحداً من جنده في أيام وأحوال عارضة، فانتهى أمرهم، ودخلوا في سجل التاريخ مع الهالكين، لم يحتاجوا من قوة الله عز وجل إلا إلى نزر يسير لا يستطاع تقديره من قلته.
وهكذا نجد القرآن يخبرنا بذلك ويبينه لنا لكننا نحن لا نلتفت ولا ننتبه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، تذكروا كل جبابرة الأرض، تذكروا كل قوى الطغيان في قديمها من عهد فرعون ومن كان معه وبعده، وفي حديثها من الدول العظمى التي سقطت من قريب، بعد أن كان ذكر اسمها يخلع قلوب الضعفاء والجبناء.
وانتبه إلى هذه القوة العظيمة لتوقن أنها في أي لحظة من اللحظات قد يصيبك أثر منها، وقد يحل بك بلاء منها، فأين أنت من النجاة إلا بعصمة الله ورحمة الله، ويوم كان ابن نوح عند الطوفان غره عقله، وظن أن الأسباب المادية تنجيه، فقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ} [هود:43] وجاء
صلى الله عليه وسلم { لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43]، وانتهى به الأمر إلى أن غمر الماء الجبال العالية، وغمر كل شيء، فلم يبق ولم يذر، ولم ينج إلا النفر الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، وكانوا قلة قليلة.
ذكر بعض أهل التفسير أن الذين آمنوا مع نوح واتبعوه في أقل رواية اثنا عشر رجلاً وفي أكثرها أربعون رجلاً، فانظروا إلى رحمة الله كيف استثنت قلة قليلة وأهلكت كثرة كاثرة كافرة فاجرة عاتية باغية ظالمة، وما ذلك على الله بعزيز.