الموقف الثاني: هو أن سبب هذا الفتح هو نقض قريش للعهد وممالأتها لبكر على خزاعة الذين كانوا في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نقضوا العهد برئت ذمة النبي صلى الله عليه وسلم من الوفاء لهم بعد نقضهم، وجاءت العلة والتحلة لرسول الله عليه الصلاة والسلام بأن يتوجه إلى مكة فاتحاً وإلى قريش معاقباً لها على نقضها لعهدها.
والفائدة المهمة لدينا هنا في وقتنا المعاصر هي أن أهل الشرك والكفر لا يوفون بذمة ولا يثبتون على عهد، وذلك أمر مطرد، ودلت عليه الآيات، ونطقت به أحاديث السنة، ولإن كان قد يكون ذلك في بعض الأحوال فإن له أسباباً وأعذاراً أخرى لا تتصل بصدق الوفاء بالعهد، ونحن نعني بذلك العهود والمواثيق التي تكون بين غير المسلمين وبين المسلمين كأمة في أمور عظيمة وفي مسائل مهمة.
وهذا أمر مهم جداً أن يكون لدى المسلمين فيه بصيرة وبصر وعلم ووعي؛ لأن من الناس من ركنوا إلى غير المسلمين، وأسرفوا في حسن الظن بهم، بل وجعلوا من سماتهم وصفاتهم وأخلاقهم ما عظموهم به على أهل الإيمان والإسلام، وربما بالغوا في ذلك مبالغات عظيمة، والذي يشهد لنا به الواقع اليوم -خاصة من اليهود عليهم لعائن الله كما وصفهم الله عز وجل في القرآن- أنهم أشهر من نقض العهود، وأكثر من أخلف الوعود، وإننا نرى في واقعنا اليوم وفيما كتبوا من عهود ومواثيق ومعاهدات ومؤتمرات أن شيئاً منها لم يكن له حظ في الواقع، وليسوا هم وحدهم بل كل أعداء الإسلام على حقيقة هذا الأمر، سيما أصحاب الحكم وأصحاب القوة والبطش في هذه البلاد والحكومات غير المسلمة فإنها لا تفي لمسلم بذمة ولا تقيم له عهداً، وقد قال الله سبحانه وتعالى في شأن ذلك: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] أي: حلفاً ولا يميناً ولا ذمة وعهداً.
وذلك أمر ينبغي أن يكون راسخاً في قلوب المؤمنين وفي أفهامهم، وذلك يدعوهم إلى أمرين: إلى وفائهم بعهودهم؛ لأن الوفاء بالعهد من سمات أهل الإيمان والإسلام، ولكن -أيضاً- إلى يدعوهم يقظتهم وتنبههم إلى عدوهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر مغازيه كان دائم التنبه إلى ما يمكر به أعداؤه، ويرصد تحركاتهم، ويجمع أخبارهم حتى لا يصاب على حين غرة، وحتى لا يعرض أهل الإسلام لفتك الأعداء، وذلك شأن الإمام الذي ينصح لرعيته والوالي الذي يقوم بواجبه ويؤدي حق الله عز وجل وحق دينه وحق رعيته فيما ولاه الله سبحانه وتعالى من أمر.