إن أمر التطهر عظيم جداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد نص على أن المتطهرين عنده من المحبوبين، وهذه منزلة عالية لا تكون لأمر من الأمور العارضة، ولا لعمل من الأعمال الظاهرة، بل تكون لجوهر يتصل بأصل الإيمان وجوهر الإسلام؛ فلذلك ينبغي أن ننظر إلى التطهر من هذه الزاوية؛ أعني من زاوية أن شأنه عظيم، وأن أمره خطير، وأن منزلته عند الله سبحانه وتعالى رفيعة.
ولهذا التطهر مجالات واسعة، وعلى نفس ونهج التطهر المادي ينبغي أن تكون لنا عناية وأسباب وأعمال وحرص وتحوط في مسألة التطهر المعنوي الباطني! وكما أن الأصل في التطهر المادي الاحتياط والبعد عن الأدناس والأقذار، فكذلك يكون هذا التطهر المعنوي الإيماني التربوي.
ثم إذا أصابت الإنسان بعض هذه الأقذار، وألم ببعض الذنوب، وضربت عليه الغفلة؛ فإنه لا يرضى أن يبقى وسخ الثياب، يخرج إلى الناس فتشمئز نفوسهم منه، وتنصرف أبصارهم عنه، وتتأفف أنوفهم من كراهية رائحته، فكما يسعى بعد وقوع الأقذار على تطهيرها وغسل ثيابه منها، فلابد له أيضاً أن يكون له بعد احتياطه في البعد عن الذنوب والمعاصي أموراً تغسل هذه الذنوب، وتبيد هذه الأوضار، وتعيد له وضاءه الإيمان، وإشراقة الإسلام، ونصاعة التوحيد، وبريق الطاعة لله سبحانه وتعالى.
ومن هنا نجد النهج القرآني الذي يدلنا على هذا الأمر، فالله عز وجل قد أمر المؤمنين أن يغضوا أبصارهم، وأمر المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن، وقال: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]، فهذا المنهج لنيل الطهارة هو البعد عما يشوبها، أو عما يدنس قلب الإنسان ونفسه من هذه الذنوب والمعاصي، والله عز وجل قال في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وفي آية غض البصر قال: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]، فهو فيه الطهارة والتزكية، فالأصل في طلب هذا التطهر هو التجنب والحذر من الوقوع فيما حرم الله عز وجل.
فإن المرء يقيس التطهر المعنوي على التطهر الحسي، فهل يرضى أن يكون في ثوبه بقعة سوداء ولو كانت صغيرة؟ إنه يراها عواراً وتشوهاً في ذلك البياض الناصع، وكذلك المعصية إن كانت صغيرة كانت كذلك، فإذا سكت وغض الطرف عن هذا، فإذا جاءت أخت لها كانت أهون منها، ثم إذا تكاثرت هذه النقاط من الأقذار والأوساخ فإنه ربما لا يكترث لها، فإذا جاءت ثالثة ورابعة رأى أنه قد سبقتها أخوات، وأنه لن يكترث لها، ثم إذا أراد بعد طول عهد أن يطهر ثوبه فإنه يجد صعوبة، ويحتاج إلى كثير من المطهرات، وإلى قوة دلك، وإلى غير ذلك؛ لأنه لم يسبق إلى ذلك التطهير أولاً بأول كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما روي عن حذيفة مرفوعاً وموقوفاً: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، فإذا تاب منها واستغفر صقل) أي: القلب، وعاد مشرقاً وضيئاً، وإن لم يفعل ذلك تجمعت هذه الأقذار والنقاط السوداء كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (حتى يصبح قلبه أسود مرباداً كالكوز مجخياً -أي: منكوساً- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه).