أنتقل إلى الملامح الأخرى المتعلقة بالناحية الفقهية: ابن القيم رحمة الله عليه كان في هذا الشأن متميزاً، وقد أفادنا منهجه كثيراً في مجالات متعددة.
فإن لـ ابن القيم في منهجه الفقهي ملامح ومعالم أساسية منها: الأول: الدعوة إلى مذهب السلف في المسائل الفقهية، وتقديمه لأقوال الصحابة والتابعين على أقوال من جاء بعدهم، والتفريق بين هذه وهذه في مراتب سيأتي ذكرها.
الثاني: التحرر وعدم الجمود.
الثالث: محاربة التلاعب بالدين.
الرابع: تفهم روح الشريعة.
وأوجز القول في كل واحدة من هذه الملاحم والمعالم: المعلم الأول: ارتباطه بسلف الأمة في المسائل الفقهية، فقد عقد ابن القيم رحمة الله عليه في أول كتابه "إعلام الموقعين" وكذا في آخره فصولاً مطولةً في أن فتاوى الصحابة والتابعين وعلمهم وما قالوه من الآراء هو الأقرب إلى الحق، والأوفق للصواب، والأكثر مطابقة لما يستنبط من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم، وفصل في ذلك ودلل عليه، لماذا؟ لأن بعض الناس في ذلك العصر وحتى في عصرنا يرون أن قول الصحابي أو قول التابعين شيء لا يهمنا، وأنه لا يهمنا إلا الكتاب والسنة، صحيح أنه يهمنا الكتاب والسنة، ولكن فهمهم أصوب، وعلمهم بهما أكثر؛ ولذلك طول ابن القيم في هذا المقام وأتى بكلام نفيس، وبحث جليل عظيم في آخر المجلد الرابع من إعلام الموقعين.
وهذه المنهجية مهمة جداً، على سبيل المثال: مسألة قول الصحابي الواحد الذي ربما لم تعضده السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام، أو قد يكون ظاهره مخالفاً للسنة يقول: يحمل هذا على ستة أوجه -أذكر بعضاً منها-: إما أنه فعل ذلك نقلاً عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينسبه له، أو نسبه ولم ينقل لنا ذلك أو كذا أو كذا، ثم قال: الوجه السادس: أنه أخطأ وخالف في ذلك ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: واحتمال وقوع خمسة من ستة أقرب من احتمال وقوع واحد من ستة، فيكون قول الصحابي مقدماً على غيره، وله مرتبته التي يعتبر بها ويستأنس بها.
وقال فيما يذكر في أصول الفقه: كلام الصحابي إذا لم يوجد له مخالف يعد معتبراً مأخوذاً به في الجملة، وإن كان كما ينقل عن الإمام أحمد أنه لا يجعله حجةً، لكنه لا يرى دفعه والإعراض عنه؛ لما للصحابة من منزلة ومزية في العلم والأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
المعلم الثاني: أمر التحرر وترك الجمود، قد كان في عصر ابن القيم وقبله بأكثر من قرن نوع من العصبية المذهبية والتقليد والجمود، الذي جعل كثيراً من المسلمين يرون تقليد غيرهم هو الواجب اللازم عليهم، وضعف بذلك طلبهم للعلم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنرى ابن القيم رحمة الله عليه هو أحد أقطاب المدرسة التي كانت في ذلك العصر تجدد معنى الارتباط بالكتاب والسنة، والأخذ منهما لمن تأهل لذلك واستجمع المواصفات التي يأخذ بها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد عاب التقليد وذمه وبين المأخذ الشرعي عليه، وبين أن المقلد قد قلد دينه دون أن يبذل جهده في تعرف الحق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفصل في ذلك، وقد نقل عن بعض من كانوا آخذين بالمذاهب أقوالاً تدل على الإفراط الشديد في مسألة التقيد بالمذاهب والتقليد لها، حتى قال أحدهم: كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ! ونقل ابن القيم عن هؤلاء أنهم كانوا إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة يقولون: لا يجوز أن ينظر فيها في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أقوال الصحابة، بل إلى ما قاله مقلده ومتبوعه ومن جعله عياراً على القرآن والسنة، فما وافق قوله أفتى به وما خالفه لم يجز له أن يفتي به، وإن فعل ذلك تعرض لعزله عن منصب الفتوى والحكم! فمثل هذه المقالات المنتشرة ميزها ابن القيم وفندها ورد عليها، وبين أنواع التقليد المحرم، وذكر أنه أنواع ثلاثة: الأول: الإعراض عما أنزل الله عز وجل، وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء، وهذا كان شأن الكافرين والمشركين.
الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله.
الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلد.
وقال: هذه كلها مذمومة.
وقد بين ابن القيم الخلاف بين التقليد وبين الاتباع، وبين من يقصر عن درجة الاجتهاد، وأن له أن يأخذ بقول غيره، ونقل عن الشافعي وغيره أنهم عندما لا يجدون دليلاً يأخذون بما أوثر عن الصحابة رضوان الله عليهم، وقلدوهم فيه، بل قد قال الشافعي في بعض فتاواه: أقول بهذا وأقلد فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهكذا كان ابن القيم يؤصل هذا المنهج ويوضحه، وأكثر ما بين ذلك في كتاب "إعلام الموقعين"، وذكر له أمثلة رائعة في كتاب "زاد المعاد" وغيرها من كتبه رحمة الله عليه.
المعلم الثالث: التلاعب بالدين، وأنه ليس لكل أحد أن يأخذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو غير أهل لذلك، فيهرف بما لا يعرف، ويخلط ويأتي بالعجائب، فقد كان من منهج ابن القيم أيضاً حياطة الدين، وذلك بسد باب التلاعب بالدين، ومن أعظم ذلك انتصابه للكلام في الحيل والرد على الحيل وإبطالها؛ لأن الحيل المقصود بها ما يكون من التحايل بصورة فقهية من الناحية الشكلية، فيظنها الظان صحيحة ويجوز ويسوغ لنفسه بها فعل ما لا يجوز شرعاً، وعلى سبيل المثال: المحلل الذي يتزوج حيلة ليحلل المرأة لزوجها الذي بانت منه بينونة كبرى، وقد عقد ابن القيم مباحث مطولة في إعلام الموقعين وفي غيره أيضاً لإبطال هذه الحيل وما استدل به أربابها، فقد استدلوا ببعض الأمور وببعض ظواهر الآيات في قصص، واستدلوا بأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) واستشهد بعضهم بقصة يوسف عليه السلام لما ورى وأخفى على إخوته قصة أخيه، وما صنع، قالوا: كل ذلك يدل على جواز الحيل.
وكذلك ما هو معلوم من قصة أيوب عليه السلام في قوله عز وجل: (((وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ)) [ص:44]، فإنه جمع مائة عود وضرب بها ضربة واحدة تحلة القسم، وغير ذلك من الأدلة.
فهو رحمه الله جاء على هذه الأدلة ورد على من استدل بها، وبين الخطأ في الاستدلال، ثم استعرض ذلك بما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم.
المعلم الرابع وهو مهم جداً: اعتبار المقاصد والنيات والعوائد والأحوال في مسائل الفتوى والأحكام، وقد عقد ابن القيم في أول المجلد الثالث من إعلام الموقعين فصلاً في هذا، فهو يقول: النية لها أثر في الحكم، ليس المقصود بالأحكام الفقهية الظواهر الشكلية، بل إذا كانت للمرء نية فإنها قد تؤثر في إبطال الصحيح من الأحكام، مثلاً: مسألة المحلل التي ذكرناها سابقاً، قد يعقد الرجل نكاحاً صحيحاً، لكن ما دامت نيته أنه يقصد بهذا النكاح هذا الغرض ولا يقصد غيره، بل يريد أن يتوصل به إلى أمر مذموم شرعاً؛ فهذه النية لها أثرها؛ ولذلك اعتبار المقاصد والحكم والعلل التي استنبطت من نصوص الشارع، والمقاصد التي روعيت في الأحكام الشرعية مع مراعاة اختلاف العوائد والأحوال؛ أمر عجيب جداً سيما في أمور المعاملات والبيوع.
وقد ذكر ابن القيم على تغير الفتوى باختلاف الأحوال والعوائد والمقاصد والنيات أكثر من مائة مثال، مما كان في عهد الصحابة، ومما اقتبسه من نصوص الكتاب والسنة، مما يدل على أن هذا الأمر مهم جداً، وإلا كان الأمر كما قال ابن القيم: فينسب حينئذ للشريعة أمور لا تصح نسبتها لها؛ لأن الشريعة مبنية على العدل، وكلها محاسن، فلا ينبغي أن تكون هناك أمور تعارض المقاصد الحسنة الكلية لهذه الشريعة الغراء، فهذه المعالم المنهجية مما ينبغي أن يستفاد منها، ومن اطلع على كتب ابن القيم يستفيد منها فوائد مباشرة وواضحة.