إن ابن القيم رحمة الله عليه لم يكن فقط ممن يقررون المسائل الفقهية على القواعد الأصولية، ويهتمون بالرد على الأقوال فحسب، وإنما خاض في علم القلوب وأحوال النفوس وما يتعلق بذلك، وأتى في هذا بعجب عجاب، وفند فيه كثيراً من الأخطاء، وبين فيه كثيراً من المحاسن التي غفل عنها كثير من الناس؛ ولذلك كان له في ذلك كتب كثيرة كما أشرت إلى بعض منها، ونستطيع أن نسميه من فقهاء الإيمان، هناك فقه الحكم الظاهر، وهناك الفقه الإيماني الذي هو من المقاصد الأساسية لهذا الدين، فنحن مثلاً عندما نأخذ كلام ابن القيم في آثار الذنوب والمعاصي، وعندما نأخذ كلامه على حياة القلوب وموتها وظلمتها ونحو ذلك، نرى ما كان عنده مما يسمى اليوم بعلم النفس، أو علاج الأمراض والعقد النفسيه ونحو ذلك، فإنه قد أتى في هذا الأمر بأشياء كثيرة مفيدة نافعة.
وأوجز أيضاً ملامح أساسية في هذا الشأن: الأول: وهذا يتكرر معنا كثيراً: الاقتباس من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في تقسيم القلوب ومعرفة أنواعها وأدوائها وعللها وعلاجها، فإن هذا قد أكثر منه ابن القيم رحمة الله عليه كثيراً.
الثاني وهو من الأمور المهمة جداً: البناء على الأثر العملي، ليست القضية في الأمور الإيمانية قضايا أقوال كما خاض في ذلك بعض المتصوفة، وبعض الذين أرادوا أن يخلوا أنفسهم من الأعمال، فقالوا أقوالاً جميلة، وتغنوا بأشعار موزونة رقيقة، وتمايلوا طرباً، ورأوا أن هذا هو حال أهل الإيمان فحسب، كان ابن القيم رحمة الله عليه -كما سأذكر بعضاً من نصوصه الكثيرة- يربط حقيقة الإيمان والعلو في الرتب الإيمانية وصفاء القلب ونقاء السريرة وغير ذلك من الأمور؛ بالتزام الشرع والإتيان بالفرائض والإكثار من النوافل، وبيان أنه ليس هناك تفريق بين علم الحقيقة وعلم الشريعة، كما يقولون.
الثالث: أن ابن القيم رحمة الله عليه فند الباطل من الآراء والأقوال والمعتقدات التي دخلت في أمر التعبد والسلوك ورياضة النفوس وتهذيب القلوب، فقد أنكر وحدة الوجود وبين زيفها، ورد على ترك التكاليف وبين حقيقة هذه الأمور بياناً شافياً وواضحاً.
الرابع وهو مهم جداً: ربطه بين العبادات والأعمال وآثارها الإيمانية في القلب والنفس، وقد أتى في زاد المعاد بأقوال مطولة نفيسة في بعض هذه المسائل، ربما عندما يسمعها السامع أو يقرؤها القارئ لا يرى إلا أنها من أقوال بعض أهل التصوف الغالين فيه، وما ثم شيء قد خرج من فيه ومن كلامه إلا الحق، وإنما كان ينطق بلسان يغترف من قلب شفاف ونفس طاهرة قد تهذبت بهذه الأعمال الإيمانية؛ لأن بعض الناس اليوم أرادوا -عن حسن نية في بعض الأحوال وعن جهل في أحوال أخرى- أن يردوا الغلو الذي وقع والشطحات التي حصلت من بعض من جنح في أمور العبادات والتزهد والترهب؛ فردوا معها أصل الأثر الإيماني، وأنكروا لذلك بعض الأمور إن لم ينكروها بنص قولهم فقد يفهم ذلك من أحوالهم ومجموع أقوالهم، كأن ينكروا ما يقذف في القلب من نور، وما يقع له من تطهير من أثر العبادة والإيمان، وما يقع أيضاً من أمور حسية سواءً بالرؤى الصالحة أو الكرامات أو غير ذلك من الأمور؛ حتى إن ابن تيمية رحمة الله عليه قد بين مثل هذا وأفاض فيه كما في بعض الرسائل والمسائل، حتى إنه عد الإلهام عند تساوي الأدلة مرجحاً عند صاحبه، يعني: يترجح به قول من الأقوال عند صاحبه، ما دام هذا الإلهام لرجل مؤمن صالح؛ لأن هناك شواهد من الأدلة تدلنا على أن التقوى والإيمان والصلاح له أثر في معرفة الحق، وله أثر أيضاً فيما يتعلق بهذه الآثار الإيمانية من ذوق حلاوة الإيمان وطعمه، ومن النور الذي يكون للعبد من أثر هذه الطاعات، ونحو ذلك من الأمور التي تقع له من توفيق وتسديد وإلهام وكرامة، وغير ذلك في حدود ما ثبت دون تجاوز، وأذكر بعض مقالاته في مثل هذه المسائل، وهذا الباب على كل حال من الأبواب المهمة التي أرى أن كثيراً من الشباب تدفعهم حماستهم إلى إنكار كثير من الأمور الإيمانية والتربوية أثناء إنكارهم للباطل الذي فعله بعض المتصوفة؛ ولذلك ترى بعضاً منهم يقول: إن مدارج السالكين لا تصح نسبته لـ ابن القيم! وذلك لأنه رأى أن ابن القيم تكلم على المنازل والمراتب على غرار ما كانوا يتكلمون فيه، مع أنه ما تكلم على ذلك إلا بكلام صحيح في جملته، واستدل لهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورد على الهروي كما سأذكر بعض الأمثلة في بعض ما خالفه فيه، أولم يوفق فيه في بعض الجمل والعبارات ونحو ذلك، وأيضاً بعضهم قد لا ينسب إليه "حادي الأرواح" أو "الروح" أو غيرها من الكتب، وأقول: ليس ثمة ما يدعو إلى عدم تصحيح نسبة هذه الكتب إلى ابن القيم فإن في كلامه وكلام شيخه من قبله وكلام غيرهما كـ الذهبي سيما في مواضع كثيرة من سير أعلام النبلاء وغيرها من كتب التراجم ما يدل على أن هذا أمر مألوف معروف، وهو أيضاً المنهج الذي اقتبسوه مما نقلوه عن السلف من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، فأذكر بعض النقولات السريعة لنختم بها هذا الكلام.
بين ابن القيم رحمة الله عليه مذهب التصوف فقال: أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف، وترك ما أحدثه الآخرون، والمقام على ما سلك الأولون.
وأيضاً يقول ابن القيم في معرض رده على بعض ما ذهب إليه غلاة المتصوفة: قيل لبعض الصوفية: قم إلى الصلاة فقال: يطالب بالأوراد من كان غافلاً وكيف بقلب كل أوقاته ورد يعني: هذا من الواصلين كما يقول، وإنما الصلاة عندهم للغافلين، أما الذين قلوبهم حية موصولة بالله عز وجل -كما يزعمون- فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك.
فقال ابن القيم رحمة الله عليه: فمن لم ير القيام بالفرائض إذا حصلت له الجمعية- يعني: اجتماع القلب- فهو كافر منسلخ من الدين، ومن عطل لها مصلحةً راجحة كالسنن الرواتب، والعلم النافع، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنفع العظيم المتعدي، فهو ناقص، أي: أن فعله ناقص وفيه خلل.
أيضاً يبين المقياس الأساسي في معرفة هذه الأمور: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع إلى الهواء فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والشريعة.
ونقل عن عبد الله الخياط قوله: الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مع ما يقع في قلوبهم- يعني: بحسب ما يقع في قلوبهم-، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام فردهم من القلب إلى الدين والشريعة.
المسألة التي في الدين ليست مسألة قلوب وأذواق ومواجيد، وإنما الأصل في الشريعة العمل بالشرع، فهو الذي يورث القلب الخير والاستقامة والصلاح ونحو ذلك.
وأيضاً: علق على كلام للهروي في منازل السائرين، وإن كان هو متعقباً له، لكنه كان متأدباً معه، يقول ابن القيم في تعليقه على قوله: ويطوي خسة التكاليف: يقصد عبء التكاليف، لكن ليت الشيخ عبر عن هذه اللفظة بغيرها، فوالله إنها لأقبح من شوكة في العين وشجىً في الحلق -يعني: أن العبارة قبيحة لم يوفق فيها- وحاشا التكاليف أن توصف بخسة أو تلحقها خسة، وإنما هي قرة عين، وسرور قلب، وحياة روح، صدر التكليف بها عن حكيم حميد، فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه، وثوابه عليها أشرف ما أعطاه للعبد سبحانه وتعالى.
وهكذا كانت له مثل هذه التعليقات والكلمات الجميلة.
وله أيضاً الفوائد الواضحة التي هي من آثار العبادة والعلم.
وقد ذكرت بعض النقولات التي تبين لنا هذا الأمر، وأحب أن أؤكد على أن كلام ابن القيم على التزكية في كتبه ومؤلفاته من أعظم ما يستفاد منه فيها رحمة الله عليه.