من صور الغلو ترك الواجبات عند تزاحم الحقوق، فإن من الناس من يندفع إلى طاعة وعبادة، ويفرط في حقوق وواجبات أخرى هي من الشرع بمثابة تلك العبادات من حيث وجوبها، بل ربما تعلق وجوبها بحقوق للعباد، لا يكون التساهل أو التسامح فيها مثل ما قد يكون في حق الله عز وجل.
والمثل المضروب في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح من حديث أبي جحيفة عند البخاري وغيره في قصة مؤاخاة سلمان الفارسي مع أبي الدرداء رضي الله عنه، حيث (جاء سلمان إلى أبي الدرداء في بيته، فوجد امرأته مبتذلة قال: ما لك يا أم الدرداء؟! قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له فينا ولا في الدنيا نصيب -أي: تفرغ لطاعته وعبادته فقصر في حقوق أهله- فجاء أبو الدرداء فقدم الطعام إلى سلمان فقال له سلمان: كل، قال: إني صائم، قال: عزمت عليك إلا أكلت، وكان متطوعاً فأفطر، ثم لما جاء الليل أراد أن يقوم ليصلي فقال له: نم، ثم أراد أن يقوم فقال له: نم، ثم أراد أن يقوم، فقال له: نم، حتى إذا كان آخر الليل قال: قم فصل الآن، فصليا، ثم لما أصبح الصبح قال سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأخبر أبو الدرداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: صدق سلمان).
وكم نرى من اندفاع في باب من الأبواب يقابله قطعاً وبلا أدنى شك تفريط في أبواب أخرى، فينبغي أن نفقه ذلك وننتبه له.
قال ابن حجر في تعليقه على الحديث: فيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل، وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور.
وفي حديث الرجل الذي نذر أن يمشي ويحج ماشياً ولا يستظل، نهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، قال ابن حجر: فيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلاً مما لم يرد بمشروعيته كتاب ولا سنة كالمشي حافياً، والجلوس في الشمس، ليس من طاعة الله تعالى؛ فلا ينعقد به النذر.
وصور من مثل هذا نراها في واقعنا وخاصة عند بعض الشباب: إذا تعلق قلبه بالطاعة وأراد أن يعوض ما فاته من عمره، أو يكفر عما سلف من ذنبه، ربما شدد على نفسه بما لا يستطيع الاستمرار فيه، وفي كثير من الأحوال يفرط في حقوق أخرى.
نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة من الغلو، ونسأله عز وجل أن يجعلنا من أهل الوسطية والاعتدال، ومن أهل الاستجابة والطاعة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.