ننتقل بشيء من التفصيل إلى الإلهام، وهو الخاطر الذي يقع للإنسان بأن يفعل شيئاً أو لا يفعل.
ذكر الإمام ابن تيمية في جامع الرسائل في تعليقه على فتوح الغيب للجيلاني كلاماً ملخصه أن الأمر إذا تكافأت أدلته ولم يكن ثمت مرجح فإن الإلهام والخاطر القلبي يؤخذ به لا على أنه ترجيح شرعي، لكن على أنه أمر فطري يدل على مثل هذا.
وذكر كلاماً طويلاً يمكن أن يرجع إليه، وكما ذكرنا فالعلماء من أهل السنة بينوا الخطأ وبينوا الصواب، والذي يخلط هذا بهذا أو يرد الكل أو يقبل الكل، واستشهدوا بأقوال المتقدمين.
ولابد أن نعرف أن بعض المتقدمين من أهل العبادة والزهد كانت أمورهم في غالبها وأكثرها على الأمر الكامل التام المحمود من متابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واستقامة على شرع الله، بل هم ردوا على كل ما خرج منه الناس من الشرع باسم التصوف.
وأبرز هذه القضايا الاكتفاء بالعبادة عن العلم وذم العلم وأنه لا يحتاج إليه، بل يكفي أن يكون ذوقه ووجده الذي يدله، فهذا رد عليه متقدمون من أمثال الجنيد ومن أمثال السلمي وغيرهما، كما نقل عنهم ابن تيمية وغيره، ورد عليه أيضاً ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب والذهبي وغيرهم من العلماء في كثير من الكتب.
المسألة الثانية الخطيرة هي التفريق بين الشريعة والحقيقية، وادعاء أن هذه الألفاظ لها ظاهر ولها باطن، والباطن هو الحقيقة التي يعرفها هؤلاء، وهذا أيضاً تعطيل للشرع وطعن فيه.
المسألة الثالثة الخطيرة هي قضية الحلول والاتحاد، وهو أعظم من كفر اليهود والنصارى، وهم الذين يقولون: هو الفناء عن السوى.
فهذا باطل وكفر بواح ذكره كل العلماء؛ لأنه إلغاء للعبودية وإلغاء للإلهية، واعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى حل في المخلوقات، وهذا كفر ظاهر وصريح.
والذي قال به العلماء وذكروا أن بعض الأحوال تنطبق عليه ليس هو فناء السوى وإنما هو فناء الشهود، أن يفنى عن مشاهدة الخلق إلى مشاهدة الخالق، فيكون متعلقاً قلبه به، فقد ينصرف عن غيره من الأحداث أو الحوادث كصوت أو كلام أو مناداة أو نحو ذلك.
ومن هنا كان بعض العلماء لهم في هذا المقام ثناء على أهل التصوف بما عندهم من الحق، ومدح لهم بما وافقوا فيه الكتاب والسنة، وكان لهم أيضاً تأول في بعض أقوالهم، وذكروا أن أقوالهم ينبغي أن تفهم على ما يعرف من أحوالهم وصدق بعضهم.
ولذلك قال ابن القيم في مسألة التأول كلمة جامعة نافعة، قال: فاعلم أن في لسان القوم من الاستعارات -أي: في عباراتهم وكتاباتهم- وإطلاق العام وإرادة الخاص، وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف.
يعني: هم استخدموا عبارات فيها هذه الأساليب التي قد لا يفهم الإنسان العادي معناها.
قال: ولهذا يقولون: نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة، والإشارة لنا والعبارة لغيرنا.
قال: وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد ويريدون بها معنىً لا فساد به، وصار هذا سبباً لفتنة طائفتين: طائفة قبلوا وطائفة ردوا.
وهذا واضح وظاهر في هذا الأمر.
ولذلك عذروهم في بعض هذه الأقوال.
فإذاً المسألة الروحانية بإيجاز هي أساس في حياة الإنسان المسلم منضبطة بالشرع غير واقعة تحت مقياس المادة والحس، وهناك مجاوزة لهذا الحد هو الذي وقع به الشطحات التي أخرجت حتى عن الملة، وهي المسائل التي أشرت إليها وأعيدها، وأعظمها الحلول والاتحاد، ومن بعده الاكتفاء عن العلم، ومن بعده الكلام عن الحقيقة الباطنة والشريعة الظاهرة، وأيضاً مسألة رابعة وهي سقوط التكليف، وهذا كله باطل وجهل ومردود بنصوص الكتاب والسنة.
وأسهل رد عليه أنه لو كانت هذه حالات كمال لكان الأولى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم.
وما علم أنهم إلى آخر حياتهم إلا وهم عابدون قائمون بالأمر مستقيمون عليه، ممتنعون عن النهي، خاضعون لله سبحانه وتعالى، مبالغون في الارتباط به والذلة له سبحانه وتعالى.
وهذا موجز ما أردنا الإشارة إليه.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون فيما ذكر الكفاية، وأن يكون المقصود قد وضح وظهر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حياة صحيحة لأرواحنا، ونوراً مشرقاً لقلوبنا، وطمأنينة كاملة لنفوسنا، وأن يجعلنا أغنى الأغنياء به، وأفقر الفقراء إليه، وأن يقيمنا على شرعه سبحانه وتعالى، وعلى هدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم- وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.