والله سبحانه وتعالى قد جعل لنا ما هو أعظم من ذلك في سيرنا إليه وفي مضينا إلى طلب رضوانه وفي السعي إلى نيل جنانه، فإنه جل وعلا قد جعل لنا المنهج النظري الكامل، وذلك في القرآن العظيم، القرآن الذي جعله الله سبحانه وتعالى المعجزة الخالدة للرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
فكل شيء من حاجة الفرد والجماعة والأمة في هذا القرآن، وكل شيء من حاجة القلب والنفس والبدن في هذا القرآن، وكل شيء من حاجة الحياة الدنيا والأخرى في هذا القرآن، لقوله جل شأنه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، فلا شيء أكمل ولا أهدى ولا أقوم من نهج القرآن، فإنه يهدي للتي هي أقوم في أي شيء وفي أي مجال، وتبقى الآية مطلقة لتعلم المسلم أن القرآن يهدي للتي هي أقوم في شأن الدين وفي شأن العبادة وفي شأن الدنيا وفي شأن السياسة وفي شأن الاقتصاد وفي شأن الأسرة وفي شأن الحياة الاجتماعية والقضائية، وفي كل شيء من نواحي هذه الحياة، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل شيء يحتاج إليه العبد في هذه الحياة.
قال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:105]، ويبين الحق جل وعلا ذلك التفصيل العجيب الكامل النادر في القرآن الكريم في قوله سبحانه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114]، أي: فيه تفصيل كل شيء، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89].
فأي فضل أعظم وأي منة أكبر على أمة الإسلام من قرآن تكفل الله بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وذكر كماله فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]؟ فلا نحتاج إلى تفكير ولا إلى تدبير، ولا نحتاج إلى مقارنة ولا إلى مقايسة، ولا نحتاج إلى اقتباس؛ فإن بين يدينا منهجاً ربانياً قرآنياً كاملاً يشمل الحياة الدنيا والحياة الأخرى وما فيهما، ويشمل كل شيء في هذا الوجود، فالله سبحانه وتعالى جعل لنا المنهج الذي نسير عليه، ونجعل سيرتنا مرتبطة به.
ولذلك أخي المسلم! الصفحة الجديدة تقتضي صلة بالقرآن وطيدة، فرطب به لسانك، أحي به قلبك، واشغل به عقلك، وليكن أنيسك في وحشتك، وليكن نورك في ظلمتك، وليكن منهجك في حيرتك، فإن هذا القرآن شفاء القلوب وجلاء الهموم والأحزان، كما قال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للمؤمنين} [الإسراء:82]، إنها نعمة بين أيدينا وجوهرة ثمينة غالية أهداها الله سبحانه وتعالى إلينا، فأين نحن منها؟! وأين نحن من التعلق والالتزام بها؟! والله سبحانه وتعالى قد دعانا إلى أن تكون صلتنا بالقرآن أعظم صلة، وأن نجعل الألسنة دائما تتلو القرآن، كما قال جل وعلا في أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل:92]، وكما بين في شأن أوصاف أهل الإيمان وما لهم من الثواب والإكرام والإحسان: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30].
والأذن ينبغي أن تنال حظها من القرآن استماعاً وإنصاتاً؛ ليخلص إلى شغاف القلب وإلى أعماق النفس، فينفض غبار الشهوات، ويبدد ظلمات الشبهات، ويبعث النور وضيئاً في قلوب المؤمنين، قال عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204].
والعقل ينبغي أن ينشغل به؛ لأن الله سبحانه وتعالى دعانا إلى التدبر، ونعى على غير المتدبرين فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فينبغي لنا أن نتذكر هذا الأمر، وأن نتذكر أن الكون والوجود كله منصت لهذا القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أن الشمس والقمر والشجر والدواب كلها تسجد لله سبحانه وتعالى، وكلها تسبح بحمده، وكلها تستجيب لأمره، والمسلم إذا مضى على منهج القرآن كان مع هذا الكون المسبح للرحمن، وإذا خالفه كان شاذاً فريداً بعيداً غريباً طريداً، ولذلك من نعمة الله على أهل الإيمان أن جعلهم الله سبحانه وتعالى مع الخلق، كما هو شأن الإنس، وكذلك هو شأن الجان، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، هكذا ينبغي أن نحيي قلوبنا بالقرآن المنهج الذي نحتاجه، والحكم الذي نبحث عنه، والأدب الذي نفتش عنه، وكل شيء نريده من الناحية النظرية المنهجية موجود بين أيدينا في القرآن، تلك هي الوسيلة العظمى الأولى.