الأمر الثالث: صور الجاهلية المعاصرة هي صور أقبح من الجاهلية السالفة التي كان فيها الإنسان محدود المدارك، متخلف التفكير، متأخراً في الوسائل، ومع ذلك تحكي لنا الجاهلية السابقة للإسلام صوراً لا يمكن أن تقارن بمثل هذه الجاهلية المعاصرة، فهذا الشاعر الجاهلي فيه عفة وفيه مراعاة للحرم وللأعراض وفيه حياء عندما يقول: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها وهند رضي الله عنها لما جاءت مبايعة للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعة النساء فكان من ضمن البيعة ألا يزنين، فانتفضت رضي الله عنها وهي تقول: (عجباً! أوتزني الحرة؟!) فكأن ذلك لم يكن في عرفهم وفي قاموسهم بهذه الصورة البشعة التي نراها اليوم في الواقع العملي تقدم عبر هذه الأوراق والمقترحات والتوصيات.
وقد ذكر أهل الحديث في الكتب الصحيحة حديث عائشة رضي الله عنها التي وصفت فيه صور البغاء والفجور في الجاهلية، فبينت لنا أن هناك نساءً بأعيانهن كنَّ معروفات في بيوتهن وبراياتهن يغشاهن طلاب الفساد وأرباب اللذة العاجلة، ويفعلون معهن الفاحشة، وكان ذلك معروفاً محدوداً معلوماً دائرته.
أما اليوم فهذه الوثيقة تريد أن يكون جميع الناس -بلا استثناء- زناة وشاذين ومن أتباع قوم لوط، دون أن يكون عليهم في ذلك حرج ولا أي غضاضة في مثل هذا، وهذا لا شك أنه من أعظم أسباب التقويض والإنهيار، كما قال شوقي رحمه الله: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا